جماهير صحار

حيث للجمهور معنى

ادبيات

اقتل (الأمي) الذي بداخلك

كتبة : مبارك بن خميس الحمداني

‏إبان الحدث التركي الأخير كنت ليلتها منقطعاً لظرف ما عن شبكات الوصل الاجتماعي. وبطبيعة الحال فإن التلفزيون هو خيار أخير لمتابعة إرهاصات أي حدث سواء كان سياسي أو حتى ثقافي لأن التلفزيون كوسيلة من وسائل الإعلام أصبح اليوم مثل المصبغة التي لا تبيع قطع القماش البيضاء إلا بعد تلوينها حسب اللون الذي يتخيره أرباب القنوات ويبيعه للمشاهد.
لم أعرج للحدث التركي إلا عبر عدة رسائل نصية اكتظ بها هاتفي من بعض الأصدقاء. تحمل عبارات مثل “انقلاب تركيا , والعالم على صفيح ساخن , وتركيا تنتصر لديموقراطيتها… الخ”. وفي اليوم التالي عدت إلى الشبكة باحثاً عن خيط المسألة. اتتبع التغريدات هنا. والمواقع الإخبارية هناك. وإذا بالحدث والأحداث الفرعية المتوالية ضمن دائرته قد تراكمت للدرجة التي لا تسمح للمتابع أن يصل إلى الخيط الأساس. وللدرجة التي لا يستطيع التفريق فيها بين (الرأي) و (أصل الحدث / الخبر).
قد يكون للحدث التركي خصوصيته وطبيعته وإرهاصاته. ولكن بشكل عام فإن المتأمل الدقيق في مسار الأحداث السياسية أو الاجتماعية أو الثقافية أو حتى أحداث الكوارث التي تصيب العالم في الآونة الأخيرة والتي تأخذ متسعها من النقاش الإعلامي والتداول عبر محطات الوصل الاجتماعي يجد أن هذه الأحداث من الصعب الإمساك بخيط فهمها وتمعنها ما لم يكن المتابع أو المحلل مدققاً منذ اللحظات الأولى لوقوع الحدث. لإن الحدث اليوم في إطار هذا التدفق المعلوماتي والإخباري الهائل أصبح يصنع لذاته ما أحب تسميته (الطبقات التراكمية للحدث) وهي سلسلة التحليلات والأخبار والأحداث الفرعية والآراء والتصريحات والربط التي يخلقها الحدث ضمن دائرته.
وبالتالي فإن هذه الطبقات تتزايد كلما تزايد نطاق تداول (الحدث / الخبر) للدرجة التي تشعر الشخص المنقطع عن المتابعة بأنه يعيش (أمية) من نوع آخر. أمام الحدث التركي راودني هذا الإحساس حتماً حينما بدأت بتتبع التفاصيل , وجدتني في عالم آخر يستعصي على الفهم الدقيق ووجدتني مكتفياً بأخذ الخطوط العريضة. فلقد أصبح التدفق الإخباري المهول الذي تصنعه وسائل الإعلام ووسائل الوصل الاجتماعي يشكل (أمية مستحدثة) يصاب بها أولئك المنقعطون ولو لسويعات بسيطة عن متابعة الجديد والمستجد , هي تلك الحالة التي يجد فيها الفرد نفسه غير قادر على الوصول إلى خيط أساس للحدث. عن خيط يكشف له أصول وأسباب الواقعة والإرهاصات السابقة لها. وهذه الأمية تشعر الفرد بحالة (اغتراب معرفي) إن صحت تسميتنا لها بذلك. تشبه حالة الاغتراب المعرفي التي تخلقها (أمية القراءة والكتابة) و (الأمية التكنولوجية).
تخيل نفسك تجلس وسط مجموعة من الأصدقاء الذين يستخدمون تطبيقا معيناً في أجهزة هواتفهم ويتواصلون خلاله ويتعارفون به وأنت لا تمتلك هذا التطبيق أو لا تجيد استخدامه. ما الشعور الذي سيراودك أمام هذا الحالة. ستشعر حتماً بأن غريب أو بالأدق (مغترب معرفياً) عن المجموعة التي تجلس معها. وتشعر حيال ذلك بنقص معين في مداركك المعرفية يؤثر بالضرورة على حالة القبول والاستيعاب الاجتماعي.
لقد مكنت التقانات الحديثة اليوم ووسائل الوصل الاجتماعي وتعدد المنصات الإعلامية اليوم معظم الأفراد في العالم من المشاركة في حالة (التنظير العالمي) حول الأحداث والأخبار والوقائع التي تحدث حول العالم. ومكنتهم أيضاً من بلورة آراء متعددة القوالب إزاء هذه الأحداث بشكل تصبح فيه المعرفة (تائهة) ويعاني فيها الفرد والمجتمع من (فوضى المعرفة) تلك الحالة التي تعني “انتشار المعرفة على نحو لا يخضع لضوابط محكمة، وهي نتاج الطفرة العجيبة التي حدثت على مستوى التكنولوجيا، وما أتاحته من تقنيات ووسائل حديثة ألغت الحدود والحواجز”.
أنك اليوم لا تكاد تمسك على خيط معرفة حول حدث ما لتقول أن هذا الخيط هو الصواب المطلق. أو الرؤية التحليلية الواضحة. لإن حالة الإرباك التي تخلقها فوضى المعرفة تجعل من الصعب بمكان “خلق معرفة متكاملة من خلال عملية البحث السطحي، وذلك ما تعلله الباحثة منى بونعامه بالقول : ” لأن استقاء المعرفة واستيعابها يقتضي نوعاً من النضج والإدراك” الذي أصبحت عملات نادرة مفقودة في عالم اليوم.
ولكن في المقابل وبالعودة إلى الحدث التركي فإن ثمة نماذج جيدة تستقرأ الحدث استقراء علمياً ونظرياً دقيقاً من الممكن التعويل عليها. فقد شاهدت أحدهم عبر “سناب شات” وضع مقطعاً رائعاً يفسر فيه حادثة الإنقلاب وفق أسس علم الاجتماع العسكري. وقرأت مقالاً في صحيفة في اليوم الموالي تجاوز عرضية الحدث وبدأ يحلل الآفاق الاقتصادية الحدث التركي والانعكاسات المتوقعة وفق نظريات اقتصادية علمية جيدة. ومثل هذه النماذج أو الفئات هي التي نحتاجها في أي حدث. القارئون بعمق . الذي لا يتحدثون أكثر مما يستقرأون وإذا تحدثوا وظفوا مداركهم العلمية والفكرية توظيفاً دقيقاً معمقاً إن لم يهدي إلى الصواب . قاربه ولم يجانبه.
إن تعاظم المعرفة. والتدفق الإخباري الهائل. ومشاركة الأفراد على اختلاف أجناسهم ومعارفهم في حالة التنظير العالمي على منصات الوصل الاجتماعي تخلق اليوم (أمية مستحدثة) نكون فيها أسرى للسطحي من المعارف. والسريع من التحليلات. والجاهز من القوالب والتنميطات. وإذا أردت أن تقتل الأمي الذي بداخلك تمعن أكثر . واقرأ أكثر مما تجدث. تتبع خيوط العلم والمعرفة. ولا تبني آراءك على تراكمات آراء غيرك حول حدث معين. لا يوجد حدث عارض في هذا العالم. كل حدث له إرهاصاته وخيوطه التي لا يدركها سوى الباحثون بعمق. والذي يقضون وقتهم في الاشتغال العلمي أكثر من نثر الآراء الساذجة هنا وهناك.
ليست كل الطرق تؤدي إلى (روما) المعرفة. وحده العلم الحقيقي هو من يستطيع بناء آراء منطقية. لتقتل الأميّ الذي بداخلك اقتله بالعلم. بالبحث الدقيق. وتنبه : العم جوجل ينمي (الأميّ) الذي بداخلنا أكثر مما يقتله. لا تلهث لإبداء رأي في كل حدث. ولا تبحث عن رأي كل أحد في كل حدث. الآراء تندثر. والعلم بنظرياته ودقائقه هو وحده من يبقى لأمد أطول.