‏ثقافة الاحتراف : غرّق الغرقان
مبارك بن خميس الحمداني
ربما ارتبط مفهوم الاحتراف في العصر الحديث بالجانب الرياضي وتحديداً مجال كرة القدم. وأصبحت هذه الكلمة محوراً أساسياً بمعاييرها الإدارية والثقافية والفنية لقياس التحولات في مجال كرة القدم. وقياس التفاوت بين الدول والمؤسسات والكيانات الرياضية المختلفة.
ولعل من أبرز النقاشات التي تتمحور حول قضية الاحتراف هو النقاش القائم حول (من أين تبدأ هذه الثقافة) وكيف تتشكل في إطار العقلية الرياضية سواء للاعبين أو المؤسسات بأجهزتها الإدارية والفنية المختلفة ؟
وتتعدد الإجابات بتعدد التوجهات الفكرية للمدارس الرياضية. وقياساً بالواقع الإداري والاجتماعي الذي يناقش فيه المفهوم ويطرح فيه على المحك. والواقع أن بناء ثقافة الاحتراف في تقديري إنما يتماثل في مكنونه مع بناء الأشكال الثقافية الأخرى كالثقافة العلمية على سبيل المثال (كيف تجعل المجتمع يفكر في قضاياه ومسارات حياته بطريقة علمية ويتجاوز أشكال التفكير اللاهوتي والخرافي في تفسير القضايا). وبناء الثقافة التربوية المعاصرة (كيف يكتسب الآباء المهارات الحديثة للتربية وفق معطيات العصر). وغيرها من أشكال الثقافة. بمعنى أنها مرتبطة في شق كبير منها بالنسق القيمي والثقافي في المجتمع. وأن أي محاولة لبناء وترسيخ هذه الثقافة تقتضي بالضرورة وضع أسسها في هذا البناء وتأصيلها كقيمة محورية داخل أشكال التفاعل الاجتماعي.
وإن كان الخبير الرياضي سعيد الشارد يعرف الاحتراف بأنه : ” العمل المتكامل والمتواصل والمتقن والمقنن والمستمر والمتطور” فإن هذه المفردات بكل ما تحويه من تأويلات وأبعاد إنما هي قيم منها قيم ثقافية وقيم إدارية وقانونية لا يمكن أن تأتي فقط من العقود الرسمية وحدها. ولا يتأتى من الشعارات أو لوائح الضبط أو المخصصات المالية وحدها. بل هي بنية ثقافية يؤثر فيها المجتمع ويتأثر بها.
وحينما نتحدث عن كون الاحتراف قيمة وبنية ثقافية فإن ذلك لا يعني أن ذلك (مقرر دراسي) يمكن أن يلقنه الطالب في سنواته الدراسية لتكون لدية ثقافة احترافية.. ولا يعني أن يوقع على عقد احترافي موجه لتكون عنده ثقافة الاحتراف. فأنت مثلا لا ترتجي من لاعب يتبع نظام غذائي صحي متزن طوال أسبوعه ثم يضعف أمام إصرار “الشلة” أمام أول وليمة “دسمة” في نهاية الإسبوع..

ولا تتوقع الاحتراف من لاعب يضعف أمام الأقران الذين يصرون عليه اللعب على “البحر والترتان”. ويقولون له بالحرف الواحد “وش بيفيدك النادي , وين بيوصلك ؟”

ولا تتوقع الاحتراف من لاعب يضعف أمام جروب الزملاء حين تحين ساعة نومه ويقال له ” من تو يا الد….”
قد تكون هذه مواقف عابرة عارضة ولكنها تعبر عن حالة ثقافية مجتمعية يتأسس عليها الكثير من القيم والتفاعلات فإذا كانت بنى الثقافة الاجتماعية لا تؤسس لقيم الاحتراف وثقافته فإن الإجراءات الإدارية والقانونية “الشكلية غالبا” لن تكون كفيلة بإحلاله وفرضه كثقافة للاعبين والكيانات الرياضية بكافة أجهزتها.
إن المسؤولية مشتركة لا تقع فقط على عاتق المنظمات والاتحاد أو الكيانات الرياضية. فالمسألة يؤسس لها في الأسر. وفي المدارس وفي تجمعات الأقران وفي المناشط الشبابية المختلفة. والمسألة لا تتعلق بكرة القدم وحدها بل تمدد إلى كافة أوجه الحياة وأشكالها. فالاحتراف في تقديري هو أداء العمل أو المهمة الموكلة بكافة أوجه الإخلاص , التفنن , الإبداع , والإلتزام. بغض النظر عن أية عوارض دخيلة تسبب الإهمال أو اللامبالاة..
إن بناء هذه الثقافة لا يمكن أن يكون بحشد الشعارات الكبرى والبرامج الرنانة والخطط البراقة. وإنما يمكن من خلال قراءة التفاصيل البسيطة للنسق الثقافي والقيمي والبناء عليها. وهنا تكمن واحدة من أساسيات الإنطلاق نحو تأصيل هذه الثقافة وهو توسيع مجال الرؤية وفي تقديري فإن مشاركة العلوم الإنسانية في عمليات البحث والدراسة والتخطيط لواقع هذه الثقافة وآليات بنائها ولا يمكن الاقتصار على المخططين الرياضين وحدهم.
في أحد المؤتمرات العربية التي حضرتها قدم أحد اساتذة علم الاجتماع دراسة في العوامل النفسية والاجتماعية المؤثرة في ثقافة الاحتراف لدى لاعبي كرة القدم في إحدى الدول العربية. ودرس عينة مكثفة من اللاعبين وخلص إلى كون أن العوامل الاجتماعية في بيئة المجتمع الذي يعيش فيه اللاعب هي المعوق الأول لنمو ثقافة الاحتراف وليس الإمكانات المادية والإدارية بالدرجة الأولى..
إن المسألة ليس مسألة تفرغ لاعب أو عدم تفرغه. والواقع الحاص لدينا فيما يتعلق بالتعاطي مع مفهوم الاحتراف هو واقع “الطفل الذي يرتدي حذاء مقاس 40 ومقاس رجله أساسا 20”.. والأدهى من ذلك أن كل التنظيرات والكليشهات والشعارات التي نطلقها لتحويل رياضة كرة القدم إلى رياضة احترافية وإلى صناعة مزدهرة تؤدي إلى مقولة “غرّق الغرقان أكثر”
#رسالة : يذكر أن غراب أراد تقليد مشية الحمامة فلا هو أتقن مشيتها و لا استطاع أن يعود لمشيته