جماهير صحار

حيث للجمهور معنى

أخبار صحار ادبيات

قراءات في خطاب المرحلة: السلطان هيثم وفلسفة جديدة للتنمية

مبارك بن خميس الحمداني
ma_writer @


أنصت العُمانيون مساء الثالث والعشرين من فبراير 2020 إلى خطاب مفصلي في تاريخ دولتهم المعاصرة، حين وجه السلطان هيثم بن طارق خطابه (السياسي) الأول بعد توليه مقاليد الحكم في 11 يناير 2020؛ على إثر خلافته للسلطان الراحل قابوس بن سعيد بن تيمور – طيب الله ثراه –. وإن كان قد ألقى يومها خطاباً سابقاً؛ فهو أقرب إلى أن يكون (خطاب العرش) الذي يمهد بروتوكولياً لانتقال السلطة، ويحدد الخطوط العريضة للسياسات الداخلية والخارجية للمرحلة المقبلة.

غير أن خطاب الثالث والعشرين من فبراير يعد تمفصلاً في بنيته، وفي الرسائل التي تضمنها، وفي توقيته، والسياقات التي طرقها، وفي طريقة تفاعله مع المزاج السياسي والاجتماعي السائد؛ باعتبارها مرتكزاً تفاعلياً أساسياً من مرتكزات التفاعل مع الخطاب السياسي في أي دولة.

ننحو في هذا الإيجاز نحو طرح سؤال أساس مؤداه: ما الذي يجعل هذا الخطاب تاريخياً في هذه المرحلة؟ وهنا لا نركز على تحليل المضامين أو استنباطها (حسب ثيماتها وموضوعاتها المتضمنة)؛ بقدر ما نحاول فهم المحيط الخارجي للخطاب في اتساقه مع المزاج السياسي والاجتماعي من ناحية، وفهم البراديغم الجديد الذي يؤسس له في سياق فلسفة الحكم والتنمية للمرحلة المقبلة في الدولة العُمانية المعاصرة من ناحية أخرى. حري بنا إذن أن نحدد (5) عوامل رئيسة تجعل من منظورنا هذا الخطاب تاريخياً في بنيته، وتاريخياً في ثيماته، وتاريخياً في بناء سياقاته. وهي على النحو الموالي:

أولاً: يقارب الخطاب طبيعة المشروع السياسي الذي يحمله السلطان هيثم؛ فإذا كانت طبيعة الخطابات التأسيسية الأولى للسلطان قابوس بن سعيد – طيب الله ثراه – في بداية عهد حكمه قد أسست لما يمكننا تسميته بمشروع (التحديث)، والذي كان مرتكزاً على غايات سياسية وتنموية أساسية منها: (بناء حكومة عصرية – تثبيت أركان حكم ديموقراطي – السعي للاعتراف من المحيط الإقليمي والدولي)، وهذه المرتكزات كانت تشكل لب بداية المشروع السياسي والتنموي للسلطان الراحل كما ظهرت في الخطابات الأولى؛ فإننا نجد في المقاربة أن خطاب السلطان هيثم يرسم معالم المشروع السياسي الذي يتبناه وهو في أغلب تفاصيله مستند إلى تفاصيل الرؤية الوطنية (عُمان 2040)؛ حيث أن غالبية مضامين الخطاب جاءت تأكيداً لما تضمنته الرؤية في محاورها (الإنسان والمجتمع – الاقتصاد والتنمية – الحوكمة والأداء المؤسسي – البيئة المستدامة) إضافة إلى التأكيد على مرتكزات وثوابت السياسية الخارجية للسلطنة حفاظاً وصوناً لها وانتقالاً بها إلى مواصلة لعب الدور الحضاري للسلطنة.

ثانياً: يحمل الخطاب لغة جديدة في بنيته، فإذا كان النص السياسي حسب تعبير مارك بونام “نص براغماتي يحتوي على بروتوكول لغوي يشبه الأسلوب البلاغي”. فإن النص الذي نحن إزاء تحليله احتفظ بهذا البروتوكول اللغوي (اللغة الرسمية بمحدداتها ونسقها واتساقها)، ولكنه تجاوزها إلى لغة إجرائية مباشرة؛ لم يرتكن الخطاب إلى لغة الشعارات السياسية أو التنمية الكبرى، وإنما قرنها بالمساق الإجرائي الذي يفترض أن تجري عليه؛ فحين تحدث على سبيل المثال عن الحاجة إلى البناء على الإرث التنموي للحقبة الماضية والإصلاح عليه, تحدث مباشرة عن (ضرورات إعادة هيكلة أجهزة الدولة), وحين تحدث عن الحاجة لتفعيل قطاع المؤسسات الصغيرة والمتوسطة وريادة الأعمال كان التحديد الإجرائي واضحاً بالتركيز على تلك المشروعات التي ترتكز على الابتكار والذكاء الصناعي والتقنيات الحديثة. وهو في ذات الإطار يرتكز حسب تعبير بورديو على “بنية تعبيرية شاملة ذات طابع ميكانيكي متفاعل مع النظام الاجتماعي”. هذه اللغة الإجرائية والمباشرة ربما لم يألفها جيل إلى جيلين من تركيبة المجتمع المعاصر في عُمان، وبالتالي شكلت حالة من التفاعل الواسع وقد تؤسس على المدى البعيد لصنع عناصر رمزية في علاقة المجتمع بالدولة والقائد الجديد.

ثالثاً: من العوامل التي تجعل الخطاب خطاباً تاريخياً؛ أنه جاء متسقاً مع المزاج السياسي والاجتماعي الداخلي والخارجي، وهذا الاتساق يمكن توضح أبعاده من خلال تحليل (المفردات والتعبيرات)، أو من خلال الكشف عن اتساق الخطاب مع الموضوعات السائدة في الإطار السياسي والاجتماعي الداخلي والخارجي، وكيف يفكر المجتمع إزاءها؟ وإلى ماذا يتطلع في شأنها؟, وهذا البعد يجعل من هذا الخطاب ذو مرجعية (مجتمعية) بالدرجة الأولى؛ فهو ليس خطاباً لتأكيد السلطوية أو إضفاء الشرعية أو خطاب للتسويغ الأخلاقي؛ كما هي أغراض التواصل السياسي في غالبه, وإنما خطاب يقترب من المجتمع, تمثّل فيه (القائم بالاتصال/ المرسل) وهو السلطان هيثم في مواضع معينة (دور المواطن) في وفائه ورثائه وتعبيراته الدلالية إزاء السلطان الراحل, وتمثل في مواضع أخرى (دور المخطط) في التعبيرات الدالة على الخطوات الإجرائية للمرحلة المقبلة), وتمثل في مواضع أخرى (دور صاحب المشروع السياسي), و (دور المثقف), و (دور رئيس الدولة). كل تلك الأدوار والتمثلات أحسن الخطاب الانتقال بينها بسلاسة أسهمت في مقبولية الخطاب وتأثيره وعمقه في الوجدان المجتمعي، عوضاً عن ذلك فمن عوامل الاتساق مع المزاج السياسي والاجتماعي داخلياً وخارجياً حسب ما تأسس عليها الخطاب ما يلي:

1- التأكيد على فهم التحديات السياسية الدولية والإقليمية وما تفرضه من احترازات وأوضاع على المستوى الداخلي.

2- التأكيد على الاستماع للمواطنين وإدراك التحديات، وتكرار مسألة مهمة مفادها أن المرحلة القادمة هي مرحلة مواكبة التطلعات والطموحات.

3- الاستعراض الدقيق ومشاركة الرأي العام طبيعة التحديات التي تعترض العمل التنمية وخصوصاً فيما يتعلق بالتحديات الاقتصادية الصرفة، أو التحديات الاقتصادية ذات البعد الاجتماعي كقضايا التشغيل وأسواق العمل والأمان الاجتماعي والاقتصادي للمجتمع.

تلك أبعاد موجزة تخللت الخطاب وأكدت على اتساقه مع المزاج السياسي والاجتماعي السائد، والواضح أن اللغة الإجرائية التي يحملها الخطاب تتسق أيضاً مع ما يعرف في أدبيات المزاج العام بـ “التمثيل الديناميكي Dynamic Representation” والذي يشير إلى أن القيادات السياسية الجديدة أو القادة الجدد “يقومون بالاستجابة وفق رؤيتهم وإدراكهم لتغير المزاج العام، ويتم هذا عبر إعادة صياغة أجندتهم وقرارتهم السياسية، بحيث تكون الأجندة الجديدة أكثر اتساقًا مع حالة المزاج العام الجديد”.

لقد كان الخطاب خطاب مرحلة بامتياز، وخطاب أسس لتاريخيته وفقاً للعناصر المتكاملة في بنائه ومرجعيته وجهازه المصطلحي الذي ارتكز عليها. والأدق من ذلك أنه جاء بثيمات واضحة من الممكن أن يتأسس عليها خلال المرحلة القادمة إطار خطة العمل الوطني، وإطار مراجعات التغيير والصلاح في كافة القطاعات. أن خير ما يستقبل به هذا الخطاب هو تمثل مبادئه، والاستعداد بالحكمة والبصيرة الثاقبة التي ناشد بها السلطان هيثم العمانيين لتنفيذ أجندته وأهدافه سعياً نحو عُمان النهضة المتجددة الصاعدة.

رابعاً: تمشياً مع اتساق الخطاب مع المزاج السياسي والاجتماعي؛ فإنه لا يمكن في تحليل نص أي خطاب أن نتجاوز الجهاز المصطلحي الذي يشكله ويتأسس عليه، فالعبارات التي كانت موجهة للشباب في الخطاب على سبيل المثال كانت تقتضي جهاز مصطلحي يتناسب مع لغتهم, ويتواكب مع سياقات الفهم والنشاط التي ينشطوا فيها؛ فاستخدام مفردات من قبيل (الابتكار – الذكاء الصناعي – التقنيات الحديثة – ريادة الأعمال – البحث العلمي) مما قد يعزز اقتراب الفهم وتأكيد المعنى لمضامين الخطاب لدى الفئة المستهدفة، وكذا الحال في الجهاز المصطلحي في التأكيد على أهمية تحقيق دولة المؤسسات والقانون وإرساء قيمها؛ فالمصطلحات المؤسسة هنا تضمنت قيم من قبيل (النزاهة – المساءلة – المحاسبة – مصالح الوطن – المصلحة العليا للوطن…). هذا الجهاز المصطلحي يتبلور في سياق تأكيدي على أهمية أن تكون دولة المؤسسات والقانون راسخة بقيمها العميقة، لا بتمظهراتها الشكلية أو تعقيدها الإداري والبيروقراطي، وتقترن في ذلك بمبادئ أساسية من قبيل الحرية وتكافؤ الفرص والعدالة والمساواة.

خامساً: وهو ما يتبناه الخطاب في ثيمته العامة من إلماح إلى فلسفة الحكم والتنمية خلال المرحلة المقبلة؛ فإن كانت مرحلة السلطان قابوس – طيب الله ثراه- اتخذت من أنموذج (التنمية الشاملة والمتوازنة)؛ والتي تشيئ إلى تغطية الاحتياجات التنموية الأساسية من البنى والخدمات بشكل متوازن في كافة أجزاء البلاد، مع الاهتمام بالتوازن بين الحاجيات الاقتصادية والاجتماعية، وإرساء نظم العدالة والتوزيع العادل للثروات. فإن قراءة سياقية تنموية في خطاب السلطان هيثم تجعلنا نتلمس أن ثمة تحول في فلسفة التنمية المزمع انتهاجها؛ فمع التحولات النوعية التي صكت في مفهوم التنمية وظهور مفاهيم كالتنمية الإنسانية المستدامة، وظهور بعض الأدبيات وجهود المفكرين الاقتصاديين أمثال أمارتيا سن صاحب مقولة (التنمية حرية), والذي أسس لتعريف جديد للتنمية استندت إليها لاحقاً الأدبيات الحديثة في تناولها وهو تعريفها بكونها: “عملية لتوسيع حريات البشر من حريات سياسية، وتسهيلات اقتصادية، وفرص وخدمات اجتماعية وأمان وقائي، وتعزيز قدرة الناس على عيش حياة هانئة وكريمة”. فإننا نلتمس في الإجراءات التي أكد على الإقدام عليها السلطان هيثم في خطابه تناولاً للأبعاد الكبرى لمفهوم التنمية بمعطياته الجديدة، بما فيها (تنمية الفرص الاجتماعية – تحقيق ضمانات الشفافية – وتحقيق الأمن الاجتماعي والاقتصادي الوقائي – وصيانة الحريات السياسية – والتأكيد على توفير التسهيلات الاقتصادية). تلك أبعاد خمسة يمكن أن نجمل من خلالها فلسفة التنمية كما تبناها هذا الخطاب ووقف عليها.

إن قراءة النهج التواصلي الذي تأسست عليه طبيعة الخطاب أخذاً في الاعتبار (الوقت الذي ألقي فيه)، (المرحلة التي ألقي فيها)، و (الوسيط التواصلي الذي ألقي من خلاله)، تجعلنا ننظر إليها من منظور النموذج التحاوري Interactive model الذي يركز على مبدأ الحوار السياسي، وأن التواصل السياسي القائم على مبدأ العقلانية هو الذي يكون فيه “كل فرد يمكن أن يكون مرسلاً أو مستقبلاً” و “لا يحتكر الساسة فيه التعبير الاجتماعي والخطاب القائم عليه”. كما أنهم لا يحتكرون أدوات التغيير. وهو ما يضمن تجلياً في الخطاب من خلال أن مختلف شرائح المجتمع استشعرت وجودها في تمثلات الخطاب (الشباب، المرأة، العاملون في القطاع العسكري…), وغيرها من الفئات وفي ذات الوقت استشعرت وجود الأدوات لديها في التغيير والإصلاح والمساهمة في المرحلة المقبلة. وهو ما أكدته تعبيرات من قبيل (…وجهود المخلصين من أبناء عمان الذين نسجل لهم كل التقدير والإجلال على ما بذلوا من أجل رفعة عمان، وإعلاء شأنها). (…داعين كافة أبناء الوطن، دون استثناء، إلى صون مكتسبات النهضة المباركة، والمشاركة الفاعلة في إكمال المسيرة الظافرة). (مرحلة شاركتم في رسم تطلعاتها…, وأسهمتم في وضع توجهاتها وأهدافها الاقتصادية والاجتماعية والثقافية).