مبارك بن خميس الحمداني
قبل أيام, بعث لي أحد الأصدقاء صورة لإحدى القرى الجبلية التابعة لولاية صحار وقت سقوط الأمطار. وكانت الصورة تركز على حاجز حديدي وضعته البلدية بمحاذاة إحدى الشوارع الداخلية في القرية, ومن الجانب الآخر يطل على مجرى أحد الأودية في الولاية ويكشف بعض مزارعها في منظر جميل جداً قد لا يميزه المتأمل من الوهلة الأولى.
وقد شبّه بعض المتابعين المنظر بجسر الفنون في باريس, أو كما يعرف بجسر “العشاق”, أو ممر الفنون. وهو هو جسر يعبر نهر السين في وسط باريس، ويربط بين رصيف مالاكي وكونتي. وقد بني لأول مرة ما بين عامي 1801م و 1804م, واشتهر عبر عادة تعليق الأزواج والعشاق أقفالاً على شبابيك شرفات الجسر ويكتبون عليها أسماءهم بالحبر الدائم أو بالنقش على المعدن مباشرة, والتاريخ الذي علقت فيه وأقفلت وأحياناً رسالة صغيرة. ولكن قررت بلدية باريس في 2014 نزع أقفال الحب وذلك للثقل الكبير الذي تكونه هذه الأقفال على الجسر, وبذلك تهدد بسقوطه، وبدأت عمليات النزع في أول يونيو 2015، وفي نفس الوقت قامت باستدعاء الفنان الفرنسي من أصل تونسي إل سيد للرسم بالغرافيتي والخط العربي عليه في مكان الأقفال.
بالمناسبة هذه ليست دعوة لتحويل الجسر المذكور إلى جسر عشاق آخر في صحار..! , ولكن حينما حاولت الربط بين صورة الجسرين حاولت القراءة بعمق أكثر في تاريخ وفكرة جسر الفنون. فوجدت أن هذه الأيقونة العالمية التي يحج إليها زوار من كل بقاع العالم بشكل غير منقطع فقط لوضع قفل هنا أو لالتقاط صورة هناك أو لسماع عازف الجيتار في زاوية من زاويا الجسر. كل هذا التقليد الذي صنع هذه الأيقونة بدأ من خلال فكرة بسيطة تتلخص في اختيار موقع الجسر نفسه. وقد امتدت هذه العادة لجسور أخرى في أنحاء أوروبا مشابهة لإطلالة جسر الفنون.
فكرت ملياً في عدد المواقع الطبيعية فاتنة الجمال التي تحتويها بلادنا عمان, والتي قد تفوق في بعض الأماكن جمالاً على ردهات باريس, أو جسور فيينا, أو حتى أزقة فينيسيا. لكنها في المقابل لم ترقى لتشكل أيقونة مميزة في عيون سكان البلاد وبالتالي هي في صورة (المنظار الاجتماعي) مجرد مواقع طبيعية نمر عليها وقد نرتاد بعضها ليس لأجل المكان نفسه, وإنما لقضاء وقت فراغ أو تناول وجبة أو في رحلات سياحية عائلية لا تكترث في الغالب لجمالية المكان.
فكثيراً ما نشاهد وخاصة في أوقات سقوط الأمطار الكثير من الأشخاص عبر مواقع التواصل الاجتماعي ممن يمتعنا بصور ﻷماكن وقرى غالبا تكون جبلية أو على مشارف الأودية وتكون غاية في الجمال. وتصلح أن تستثمر سياحيا بصورة خلاقة.. ولكنها للأسف تفتقد إلى الترويج السياحي من ناحية ومن ناحية أخرى إلى أفكار بسيطة قد تحولها من مجرد مزار اعتيادي إلى أيقونة سياحية ومقصد سياحي دائم.
أضف إلى ذلك أن كثير من الوافدين والمقيمين في البلد وبحسب معايشتنا واحتكاكنا الدائم بهم لا يملكون أبسط المعلومات عن هذه المواقع السياحية وخاصة في أوقات الإجازات. وقد قابلنا الكثير من هؤلاء ممن يحاول أن يبحث هنا ويسأل هناك عن مكان سياحي يستطيع زيارته في أوقات الإجازات عدا الأماكن التي أصبحت تقليدية ولا تشبع الرغبات السياحية إشباعاً حقيقياً. اذهب في عطلات نهاية الإسبوع أو الأعياد إلى المجمعات التجارية وإلى دور السينما ستجد أن غالبية من يرتادها من الوافدين ليس لإنها الوجهة المفضلة بالنسبة لهم لقضاء الإجازات, ولكن لإنه لا خيار آخر لديهم – بحسب طبيعة معرفتهم بالأماكن السياحية في البلد.
أتساءل اليوم في ظل الاستراتيجات الكبرى التي نسمع عنها من قبل وزارة السياحة للترويج السياحي للسلطنة. أين يكمن موقع مثل هذه المساحات الطبيعية والقرى الخلابة من إطار الترويج السياحي. ولماذا تركز سياحتنا على مرتكزين أساسيين يتمثل الأول في المشاريع الرنانة والكبرى التي نتغنى بها. والآخر على جذب الترويج السياحي من خارج السلطنة أكثر من التركيز على تنمية السياحة الداخلية والمواقع الطبيعية التي من الممكن الاستثمار فيها بوجه أفضل مما هو عليه الآن.
فإذا كانت السلطنة تحتل المرتبة الخامسة من إجمالي (140) دولة في جودة الطرق, والسادسة من ذات العدد في استدامة تنمية صناعة السفر والسياحة, والخامسة في فاعلية نظام الضرائب, والأولى في توافر شركات ومكاتب تأجير السيارات بحسب الرؤية الدولية لمقومات الاستثمار السياحي في السلطنة للعام 2013 , نتساءل لماذا لا تزال مساهمة قطاع السياحة في الناتج المحلي الإجمالي خجولة ومتواضعة جداً بحيث لا تتعدى 2.4% بحسب آخر الإحصاءات الرسمية الصادرة ؟!
في تقديري أن السبب في ذلك أن جزء من المعادلة لا يزال مبتور في القطاع السياحي في السلطنة, ففي ظل التوجه المحمود للترويج السياحي للسلطنة في الحواضر والمدن العالمية نواجه أزمة حقيقية في الترويج والتسويق الداخلي للمقاصد السياحية, رغم أن هناك مشاريع جادة في هذا المجال لكنها لا ترتقي للمستوى المأمول. وهذه الخلاصة تحديداً أقولها في ظل التركيب السكاني الذي يكاد يتساوى فيه نسبياً عدد المواطنين في المجتمع مع عدد الوافدين. فأنت في حاجة ماسة للإشتغال على الداخل بالقدر الذي تتغنى فيه بالإشتغال على الخارج.
ومن باب عدم الاقتصار على توجيه سهام النقد أتساءل في نقطة مهمة وفي ظل قصور مبادرات الترويج السياحي الداخلي الذي تقوم به الجهات القائمة على شأن السياحة في البلاد للمواقع الطبيعية والمزارات الجميلة والآثار في السلطنة, لماذا لا تقوم مديريات السياحة في المحافظات بالتعاقد مع فرق شبابية تقوم بمهام ومسألة الترويج السياحي لولاياتها وللأماكن التي تستحق الزيارة في الولاية وتزويد المواطنين والوافدين بمعلومات حولها.
الكثير من الوافدين يسألون عن مواقع تستحق الزيارة في الولايات التي يقيمون فيها وللأسف لا يجدون معلومات حولها.. وأصبح لدينا اليوم في كل محافظة عشرات الفرق الشبابية التي تنشط في مجالات مختلفة منها مجالات تطوعية وأخرى ثقافية ورياضية وإعلامية, وقد يقول قائل ولماذا لا تبادر هذه الفرق ذاتها بالترويج السياحي لمناطقها. وهنا نقول أن المسألة تحتاج إلى منظومة متكاملة حتى يتحقق مفهوم صناعة السياحة وقد لا يكون في مقدور هذه الفرق من الإمكانات المادية ما يؤهلها للقيام بالمهمة والإستدامة فيها. ولكن مع وجود الشراكة والدعم يمكن لهذه الفرق أن تحقق نشاطاً فارقاً في مسألة الترويج السياحي لعدة أسباب من أهمها : الدراية الكاملة بالمنطقة والمعلومات عنها وتفاصيلها وثقافتها والمحظورات فيها بما يتماس مع نسقها المجتمعي وبالتالي هناك ثراء في المعرفة السياحي , وكذلك قرب هذه الفرق من الولاية بما يمكنها من انتقاء أفضل الميزات قصد الترويج السياحي , ثم أن هذه الفرق ستحمل حماسة الشباب وأفكارهم المتجددة بحيث يتاح المجال لأفكار خلاقة ومبتكرة في الترويج السياحي أن تدخل لهذه المنظومة, وأخيراً وهي نقطة غاية في الأهمية قد يقول البعض أن سكان هذه القرى أو الولايات بما يحملون من ثقافة مجتمعية قد تقف عائقاً أمام النشاط السياحي وهنا نؤكد أنك إذا ما سمحت بمشاركة المجتمع بأفراده أنفسهم في مسألة الترويج لمناطقهم سياحياً فأنت تكسر جزء من الحاجز المجتمعي والثقافي الذي يعرقل التنمية السياحي في ذات القرية أو الولاية لأن الفرد حينها يشعر أنه جزء من هذه الصناعة وهذه المنظومة المتكاملة وهذا ما يؤكد عليه كوبر وآخرون في أطروحته عن الوعي السياحي بالقول الوعي إن هذا الوعي “…لا يتحقق إلا من خلال تضافر جهود كافة الجهات داخل المجتمع، لأن عملية صناعة السياحة لا تتوقف على القطاعين الخاص والعام، وإنما تتعداهما إلى الفرد داخل المجتمع باعتباره العنصر الأساسي والمهم في عملية صناعة السياحة من جهة، ومعيارا حقيقيا للرضا والتقدم الحضاري للمجتمع من جهة أخرى. فصناعة السياحة مرتبطة بسلوكيات الأفراد ، ولن تنهض السياحة وتزدهر إلا إذا احتضنها المجتمع ككل واعتبرها قضية مجتمع ، وذلك للعمل على تصحيح الصورة وإعادة تفعيل العمل السياحي…”
يا ترى هل سيكلف التعاقد مع هذه الفرق ما يكلفه الترويج للسلطنة على حافلات باريس العملاقة.! أو ما تكلفه الأيام الثقافية العمانية البرازيلية. أو الأيام العمانية في جزر الواق واق..!