جماهير صحار

حيث للجمهور معنى

ادبيات

‏لماذا يتم ابتزازنا ؟

مبارك بن خميس الحمداني

حينما تصيب (بعض) المشكلات الاجتماعية صلب النظام الاجتماعي لأي مجتمع فإنها بالضرورة لا تعبر عن ذاتها منفصلة. وإنما تفضح غيرها من المشكلات (السطحية والعميقة) في صلب النظام الاجتماعي. ومثل هذا النوع من المشكلات لا تنفع معها الحلول الآنية التي تركز غالباً على تصحيح البناء الفوقي للمجتمع الذي تعبر عنه مستويات الوعي والأفكار المنتشرة ودرجة الانفتاح الثقافي. وإنما يتطلب تصحيحها النظر والبحث والدراسة في مشكلات جذرية أعمق تنهش صلب المجتمع.
ومن المشكلات القديمة النشأة المستحدثة الطرق والطرائق مشكلة (الابتزاز) وهنا أتحدث عنها في شقها (الإلكتروني) المستحدث. هذه المشكلة التي أصبحت اليوم تفرز لنا ضحاياها بشكل شبه يومي وبأعداد تتزايد يوماً بعد يوم. ورغم عدم وجود (أرقام رسمية) واضحة حول انتشار المشكلة وفي ظل عدم وضوح آلية الرصد للمشكلة في الجانب المؤسسي فإن هذه الحالات أصبحت تطفو على السطح في ظل نظام (العالم :غرفة كونية صغيرة) فنشاهد وبشكل شبه يومي نماذج مختلفة من الضحايا الذين تتفاوت أعمارهم وأجناسهم ومستوياتهم التعليمية ومكانتهم الاجتماعية. ممن وقعوا في هذا الفخ. أضف عليه الحالات التي لم تظهر للسطح بفضل إنها تعاطت بشكل أو بآخر مع المشكلة واتخذت اجراءات معينة لتفادي انتشارها.
ويعرف باحثون الابتزاز في شقه العام بكونه : “القيام بالتهديد بكشف معلومات معينة عن شخص، أو فعل شيء لتدمير الشخص المهدد، إن لم يقم الشخص المهدد بالاستجابة إلى بعض الطلبات. هذه المعلومات تكون عادة محرجة أو ذات طبيعة مدمرة اجتماعياً”.

وتطور المفهوم اليوم في شقه (الإلكتروني) ليكون أشبه بالعصابات الإلكترونية المتخصصة التي تستهدف “القيادم بتسجيل مقاطع فيديو غير لائقة للضحايا عبر الإنترنت ثم تهديدهم بنشرها ما لم يدفعوا مبالغ مالية ضخمة.” واتخذت هذه العصابات التي هي في الغالب (متعددة الجنسيات) أسلحة مهمة للعب على وتر الضحايا وأبرز أسلحتها في هذا الشأن هو (الجنس الافتراضي). مما أوقع مئات الضحايا وفق أرقام تتزايد بشكل يومي ملحوظ.
لسنا في هذه المقالة في صدد تكرار مقولات نظرية إعلامية جاهزة حول المشكلة أو ما يتردد في الخطب الوعظية حول أسباب حدوث المشكلة. أو في الكلام العام حولها. وإنما أرى من وجهة نظر شخصية أن التعامل الأمثل مع أي مشكلة اجتماعية يبدأ من طرح الأسئلة الأمثل حول المشكلة. فالأسئلة غير الدقيقة تفضي إلى إجابات غير دقيقة وبالتالي طرق مواجهة غير مجدية مع المشكلة. وفي مسألة الابتزاز الإلكتروني علينا أن نتبعد عن الأسباب السطحية التي تكرر هنا وهناك كالقول بضعف الوازع الديني. والقول بضعف الوعي والثقافة القانونية وأساسيات الأمن الإلكتروني والمعلوماتي. أو القول بضعف المستوى التعليمي وتدني الدافعية والطموح. فهذه الأسباب رغم كونها جزء حقيقي من تكوين المشكلة وظهورها إلا إنها أسباب عامة ولاحقة للمشكلة. 
وإنما يتوجب طرح الأسئلة الأعمق حول هذه المشكلة لتكشف لنا عن مشكلات أعمق متجذرة في صلب النظام الاجتماعي ومن هذه الأسئلة ( هل تحقق الأسرة بشكلها المعاصر اليوم الإشباع العاطفي والوجداني لكافة أفرادها مما يحد من وقوعهم في مثل هذه المشكلات التي تعلب على العمق الغريزي والعاطفي ؟ )
و (هل يؤسس المحيط العائلي لآفاق حوار أسرية تدفع بالأفراد للكشف عن ما يختلج دواخلهم ومكاشفة مشاعرهم وأحلامهم وآلامهم ومآلاتهم بحيث تكون الأسرة مجتمعاً متفهماً متحاوراً يحتوي أفراده ويصنع لهم درعاً عاطفيا وعقلانيا واقياً من الوقوع في هذه المشكلة ؟ )
ومن الأسئلة أيضا (هل يحقق النظام التعليمي التأسيس لبناء فكري وواعي لدى المتعلم يجعله ليس فقط عارفاً بمآلات هذه المشكلة وإنما يرسخ فيه الحذر من أسبابها ومطبات الوقوع فيها ؟ )
و (هل يؤسس الخطاب الديني بشكله الحالي لعمق معرفي ووجداني يبتعد بالفرد عن التفكير في مثل هذه الأفخاخ المنصوبة ويرسخ لديه الأخلاق الحضارية التي تعصمه من الوقوع فيها ؟ )
و (هل لدينا منظومة “أخلاق حضارية” للمجتمع تساعد الفرد الإنشغال بشأنه الخاص وعدم الضلوع في شأن الآخرين مما يفاقم بعض المشكلات بالتشهير والشماتة وغيرها من التصرفات التي تساهم في تفشي المشكلة ؟ )
كل هذه الأسئلة مطروحة للبحث والتداول المعمق. وإننا نعتقد أن جزء من تفاقم مشكلة الابتزاز بشكل عام والإلكتروني بشكل خاص هو غياب البحث المتخصص حولها. والإكتفاء بترديد مقولات نظرية وأسباب عامة نعتقد أن من خلالها يجب أن تنطلق المواجهة. لا تحدثني اليوم عن ضعف الوازع الديني والأخلاقي بوصفها سبباً أساسياً للمشكلة. فالمحرك الديني والنزعة الأخلاقية لا تنشأ في الفرد من تلقاء ذاتها أو يولد متلبساً بها وإنما تكتسب من خلال المؤسسات المحورية في التنشئة الاجتماعية. وبالتالي فإن هذه المؤسسات تصبح مسؤولة عن مستوى رفع وخفض الوازع أو النزعات المختلفة داخل الفرد. والأخلاق على وجه التحديد مفهوم متحرك بتحرك الزمان واختلاف ظروف العصر ومقوماته ومتطلباته.
كما أن الحديث عن امتلاك المجتمع للوعي القانوني أو الثقافة القانونية حديث سابق لأوانه. لأن في تقديرنا أن هذا الشكل من الوعي أو الثقافة شكل متقدم. ينغرس في المجتمع وتركيبته الفكرية متى ما وصل المجتمع إلى مستوى عالٍ من التحضر والانفتاح الثقافي والحراك الفكري الواسع. ومجتمعنا لنكن أكثر صراحة لا زال على بعد خطوات من تعميم هذا الشكل من الوعي والثقافة. 
إن المواجهة مع مشكلة الابتزاز الالكتروني لن تصلح بالطريقة الحالية بالمعالجة القانونية مباشرة أو الحملات والمراكز الطوعية والرسمية. فهذه المراكز تتعامل مع حالات متقدمة في المجتمع. وإنما علينا طرح التساؤلات الكبرى حول تكويناتنا الأسرية. ونظمنا التعليمية. ومؤسسات التنشئة والتكوين الاجتماعي التي يفترض بها أن تنمي في الفرد نوازع التحضر بكافة أشكاله ثقافيا وفكريا وسلوكياً. وأن تتيح مساحات أرحب للحوار بين افرادها. وتنمي فيهم نزعاتهم الأسرية لتكون الأسرة ملاذاً وجدانيا أمثل للفرد يعصمه من الوقوع في مثل هذه المآزق.