عن #جسق والحكايات التي لا تحكى (1)
مبارك بن خميس الحمداني
أشهر معدودة منذ غادرنا أروقة جامعة السلطان قابوس والمدعوة ب (جسق) كما يتعارف على ذلك روادها من الطلبة. اختصاراً للأحرف الأولى من كلماتها. والحقيقة أن ثمة ندب وعلامات غائرة في الروح والفكر أوقعتها هذه المغادرة. مهما حاولنا القفز عليها أو التماهي مع المآلات التي تقودنا بعيداً عنها. إلا إن جسق حاضرة بكل تفاصيلها وكل الملامح التي تصمها في روحك وعقلك وتكوين شخصيتك.
تخرجنا من أروقة المدارس في العام الدراسي 2009/2010 وهو العام الذي سبق العام المفصلي في مسار الدولة العمانية الحديثة (2011) بكل تحولاتها وانعكاس هذه التحولات على الفرص التعليمية وأيضا الحياة الدراسية والجامعية على حد سواء. في تلك الفترة كان التصور الذهني السائد أن أولئك الذين يحصلون على النسب التسعينية ويرتادون جامعة السلطان قابوس فإنما هم يرتادون (فردوس) مؤسسات التعليم العالي في عمان. تنبه : هذه النظرة سوف تتلاشى مع السنوات الجامعية الأولى. وسوف تتلاشى أكثر مع قرب التخرج. ولكنها ستعود حاضرة بعد التخرج لا محالة. جامعة السلطان قابوس قد لا تكون على مستوى النظام الأكاديمي بتلك الجامعة الرائدة التي يراهن عليها. ولكن ما يميزها أنها بتكوينها (المجتمعي) توفر لطالبها باقة متكاملة من تجارب الحياة أكاديمياً وإبداعيا وثقافيا وفنياً وربما حتى سياسياً وعاطفيا. ركز على المفردتين الأخيرتين وتجنبهما.!
ما يميز جسق عن غيرها من مؤسسات التعليم الأكاديمي في عمان أنها تحقق مفهوم (المجتمع الأكاديمي) بشكل واضح ودقيق. فالعمق الأكاديمي في المقررات. وبيئة النشاط الطلابي المتعددة. وفرص الإبداع التي تبدأ من الطلاب أنفسهم وليس بتوجيه أفقي من الأعلى. وكذلك نوعية النظام الأكاديمي والمرافق الأكاديمية تهيئ جداً لأبناء التخصص والدفعة الواحدة فرصاً واسعاً لخلق أسرة أكاديمية تعيش كل متناقضات وطرائف الحياة الجامعية . وهي حقاً ما يبتقى من ذاكرة بعد كل السنوات التي ستقضيها بعيداً عن أروقة جسق.
المسار الذي كنا نقطعه بين كلية الآداب ومبنى (F) والذي لطالما صدح فيه الشعراء بقصائد غزلية. كرك ساعات الصباح الأولى من مقهى الآداب والذي يحدث ثورة عقلية ويستحضر محمود درويش الساكن بعقلك. سمك الغداء المشوي الذي تهب نسائمه قبل محاضرة الإحصاء الاجتماعي ويجعلك طوال المحاضرة في حيرة لتخير مطعم آخر من مطاعم الخوض تحافظ فيه على ما تبقى من قوام معدتك. محاضرات الدكتور أنور الرواس المليئة بالمشاكسات الفكرية اللذيذة والممتعة. قسم الإعلام الذي كلما عبرت ممراته يجعلك نادماً على عدم الإلتحاق به والخوض في لذة مقرراته وعمق أكاديمييه.. كلها صور حاضرة تخلق منك بطريقة أو بأخرى ولو لفترة معينة من الزمن شخص غريب الأطوار بالمعنى الإيجابي للكلمة. وتذكر دائما أن كل هذه التجارب سوف تتذكرها يوماً وتبتسم ليس فقط لذكراها وإنما لأنها صقلتك لتكون أنت الشخص الذي عليه اليوم.
الغريب في جسق أنها تجربة تنخر في عمق الروح والوجدان ثم تفعل مفعولها في القلب. أنت بالأحرى ستجر كل المواقف بتفاصيلها البسيطة إلى غرفتك المنضوية في إحدى أزقة الخوض (المعنى الآخر للحياة). لربما تبحث في موقع الجامعة عن صورة ذلك الدكتور الذي يعتقد أن ورقة اجابتك يجب أن تكون نسخة طبق الأصل مما كتبه إحسان الحسن في كتبه الجامدة المكررة التي سوف تصيبك بالصداع المزمن من مواضيعا. وربما تعلق صورة اميل دوركايم في الجدار المناوئ لسريرك لأن شاربه الطويل كان المنقذ وبه استذكرت في اختبار النظريات الاجتماعية أنه واضع تعبير (الأنومي) التي تشبه تماماً انحرافات ملامحه وتداخل الشعر في لحيته وشاربه. وقد تبحث عن مكبرات صوت من أحد الزملاء لتشغل طوال الليل الخطاب التاريخي لتشي جيفارا في الأمم المتحدة انتصاراً لرأيك المقموع في محاضرة الإعلام والقضايا السياسية.
في الحقيقة أن فكرة (المجتمع الأكاديمي) في جسق تصقل وتبلور لديك آراء وتوجهات على مستويات عدة (فلسفية / ثقافية / سياسية / رياضية / اقتصادية / وفنية) وميزة هذه الآراء أنها تتأتى من داخل وعي الفرد نفسه. وتنشأ من جراء تلاقح وتشذيب من المحيط وتتطور بتطور التجربة الثقافية للطالب داخل المؤسسة. في جسق الكل لديهم آراء. ليس بالضرورة ما تكون طبيعة هذه الآراء ومدى صوابها من عدمه. ولكن الأهم أن الكل قادر على قول رأي ما في قضية معينة. والجرأة على تحديد الاتجاه أو الرأي أو التوجه ميزة فارقة للشخصية تبثها جسق بطبيعتها التكوينية والأكاديمية في طلابها. وهذا مؤشر جيد على الأقل لجسق وطلابها.
في جسق كفاءات أكاديمية عميقة. ذات عمق علمي وفكري. كفاءات بمعنى الكلمة قد تتفاوت بين قسم وآخر وكلية وأخرى. لكنها لديها الأدوات والمنهج لصناعة علماء ومفكرين وقادة بحق وبكلما تحمله الكلمة من معنى. يبقى الرهان هو يد الطالب كيف يستفيد من عمق هذه الكفاءات. وينهل منها. وكيف يتجاوز خط التفكير في أن تكون العلاقة مع المقرر أو المحاضر الأكاديمي علاقة نفعية قائمة على (الدرجة / المعدل) لعلاقة مهنية قائمة على الاكتساب والتعاون والاستفادة بشكل معمق من كفاءة علمية وفكرية وبحثية.
جسق مجتمع إبداعي يجب أن يستثمر طلابه إمكانات وفرص الإبداع الموجودة فيه بأقصى جهد ممكن. والعلاقات التشبيكية الواسعة التي تخلقها جسق مع المؤسسات الأخرى تتيح للطالب ممارسة تسويق الذات بشكل جيد. على أن يكتسب الطالب الفطنة والوسائل المناسبة لتحقيق ذلك. في مجتمع جسق سوف تصادف كل أنواع الكائنات البشرية بكل تناقضاتها. لا تنصدم. حدد علاقاتك وتخير الشلة التي تعينك على (الدح).
جسق تجربة روحية. تصقلك اجتماعياً قبل أن تصقلك أكاديمياً وفكرياً. وحده الوقوف على منصات التخرج في جسق يشعرك بحجم الأسى على مفارقة هذا الصرح أكثر من الفرح على تحقيق المراد. جسق هي الوجه الآخر للحكايات التي لا تحكى. وللتفاصيل الصغيرة التي من الصعب حصرها. جسق حياة وفراقها منفى.