جماهير صحار

حيث للجمهور معنى

ادبيات

طلاق: محاكمة فيفيان أمساليم

Bader

مراجعة : بدر الجهوري

“أعطني حريتي.. أطلق يديَّ

إنني أعطيت ما استبقيت شيئا”

إبراهيم ناجي

مضى وقتٌ طويل مذ شاهدت فيلماً إسرائيلياً آخر مرة، حيث كانت أول تجربة لي مع السينما العبرية في فيلم Waltz with Bashir في 2008 والذي ألفه وأخرجه وقام ببطولته آري فولمان الذي أراد إعادة سرد الاجتياح الإسرائيلي للبنان عام 1982 عن طريق إجراء حوارات مع من بقي على قيد الحياة من الجنود الإسرائيليين الذين شاركوا في الاجتياح آنذاك.

gett

أعود هذه المرة للسينما العبرية مع فيلم Gett: The Trial of Viviane Amsalem، وكلمة Gett بالعبرية تعني “طلاق”. تشوقت لمتابعة الفيلم بعد أن كتب أحد النقاد عنه أنه نسخة معاصرة لمحاكمة جان دارك المعروفة ب”عذراء أورليان” في القرن الخامس عشر. وقد أصاب فيما قال حيث تسقط فيفيان ضحيةً لنظام سلطوي دينيدوغمائي تماماَ كما سقطت عذراء أورليان.

(محاكمة فيفيان أمساليم) هو ميلودراما تلخص واقع الزواج والطلاق في دولة إسرائيل، حيث لا يوجد زواج مدني، وبالتالي إن حدث الزواج – بمباركة الحاخام – فلا يمكن للطلاق أن يحدث إلا بموافقة الزوج، ولا توجد أي قوة قادرة على “خلع” الزوج الذي يصبح ذا سلطة أعلى من الحاخام والمحكمة في هذا الشأن.

طوال خمس سنوات تحضر فيفيان جلسة محاكمة تلو الأخرى، مسلحة بكل الشهود والأدلة التي تؤكد أن حياتها مع زوجها “إليشا” لا تطاق، وأن الزواج ليس مجرد نفقة وتلبية لرغبات جنسية، بل هو تقبل لاختلاف الآخر مهما كان هذا الاختلاف. ولكن تجد نفسها أمام محكمة عاجزة عن اتخاذ قرار، محكمة يفترض أن تكون دار عدل وقضاء فإذا بها ترسم صورة كئيبة للنظام القضائي في دولة إسرائيل.

الفيلم من بطولة رونيتإلكابيتز التي تشترك أيضاً مع أخيهاشلوميإلكابيتز في الكتابة والإخراج، ونقول هنا بطولة لأن رونيت تلعب دور فيفيان رغم أنها تختفي في بداية الفيلم حيث تدور معركة ذكورية بين محاميها وزوجها ومحامي زوجها والقضاة الثلاثة الذين يفترض أن يقرروا مصيرها… وشيئا فشيئاً تنتفض فيفيان لتقرر أن تدافع عن نفسها..

من حيث التصوير يذكرني الفيلم كثيراً بالتحفة الخالدة لهنري فوندا “12 عشر رجلاً غاضباً” حيث يتم تصوير الفيلم ذو الساعتين كاملاً في قاعة المحكمة أو في قاعة الانتظار بالخارج، وبالتالي يصب المخرجان كامل طاقتهما وإبداعهما في الأداء التمثيلي الذي أقل ما يقال عنه أنه مبهر بكل ما تحمل الكلمة من معنى.

يبدأ الفيلم بمحامي فيفيان يحتل فيه وجهه كل الشاشة تقريباً، يحدق في الشاشة بصمت لخمس ثوانٍ تعرف من نظرته أنه مقبلٌ على معركة صعبة، يلتفت بعدها – دون أن تتغير وضعية الكاميرا – للقضاة الحاخامات ينتقد فيهما تهاون الزوج في حضور جلسات المحاكمة، وتستمر وضعية الكاميرا طوال ال25 ثانية من حديثه وكأن المخرجين يقولان لنا: لا تنشغلوا بأي شيء، ركزوا في هذه الافتتاحية فأنتم على موعدٍ مع ملحمة ميلودرامية فريدة من نوعها. تذكرني هذه البداية كثيراً بالفيلم الإيراني “انفصال” (يمكنكم الرجوع لمقالي حول هذا الفيلم هنا) الذي بدأ بمحاكمة وانتهى بمحاكمة.

تنتقل الكاميرا بعدها لزوج فيفيان – وأيضاً في كادرٍ قريب جدا – الذي يجيب على أسئلة القضاة (دون أن نراهم هنا) ثم يلتفت لفيفيان يطلب منها العودة. وبينما تظل الكاميرا مصوبة على الزوج وتعابير وجهه يواصل المحامي نقاشه مع القضاة، قبل أن تنتقل الكاميرا فجأة لتظهر وجه فيفيان (لأول مرة) وهي ترسل نظرة تحدٍ لزوجها.. فيما يواصل المحامي والقضاة نقاشهم.

باختصار.. عنوان هذا الفيلم التصوير والأداء التمثيلي البديع الذي ينم عن إحساس عميق بالترابط السيميائي بين النص والصورة.. يحافظ المخرجان على هذا الترابط وهما يصعَدان الأحداث لكأنهما في سيمفونية يرتفع رتمها شيئاً فشيئاً حتى تصل للكريشيندوفتخرج فيفيان من صمتها وتصرخ “أعطني حريتي! أعطني حريتي!”.