جماهير صحار

حيث للجمهور معنى

ادبيات

‏الوجه الآخر للعلوم الاجتماعية

كتب: مبارك بن خميس الحمداني

في دول كثيرة حول العالم وليس بالاقتصار على العالم العربي أو منطقة الخليج العربي تحديداً. تعاني مخرجات العلوم الإنسانية من أزمة متفاقمة فيما يتعلق بشغل وتوافر الشواغر الوظيفية في المؤسسات الرئيسية في الدول. وهذه الأزمة في كينونتها ليست أزمة بطالة أو توافر شواغر فحسب. وإنما هي نابعة من مرحلة انتقالية وهي إفراز فعلي يأتي متزامنا مع إفرازات كثيرة أحدثتها التحولات والتبدلات في عالم اليوم. وفرضتها تحولات الحياة التقانية والمعرفية وتعاظم العلوم ودقة التخصصات.

إن هذه الأزمة تجد فيها العلوم الإنسانية نفسها تائهة حائرة في شغل مقعد أساسي في حياة مجتمعات اليوم وفي كيان مؤسسات الدول. حيث أنها تتأرجح بين وظائفها التنظيرية وحاجة المجتمع إلى وظائف تطبيقية تساهم في تطوير سيرورة العمل بشكل يتوافق مع تحولات الحكومات وأسس إدارة الدول وفق المناهج الحديثة بما فيها الحاجة إلى النهضة العلمية والتحول التقاني المتسارع.

إن السؤال السطحي المباشر الذي يواجه كوادر العلوم الإنسانية بعد قضاء المرحلة الجامعية اليوم هو سؤال : ما الحاجة إلى علومكم في عالم اليوم . وما حاجتنا إلى علوم تنظيرية لا تقدم ولا تؤخر سوى الكلام المطول والتوصيفات النظرية. أو خذها بلغة العامة : “وش نريد في ناس ما عندها إلا تتفلسف”.

وفي الحقيقة فإن هذه الصورة الذهنية التي يصنعها المجتمع بشكل عام حول واقع العلوم الإنسانية تنعكس بشكل أو بآخر على عقل الدولة. وعلى نظم التخطيط والتدبير فيها. فتصبح السياسات القائمة لا تختلف عن مبدأ (المجتمع عاوز كده). وحينما يصل العقل التخطيطي في الدولة إلى هذا المستوى من التدبير فإن الدولة تفقد عقلها الاستراتيجي وتدخل في غيبوبة التخبطات والمشاريع الإنمائية المحتضرة.

لن أتحدث هنا عن حالة عموم العلوم الإنسانية. وسأقتصر الحديث عن مخرجات أقسام الاجتماع والخدمة الاجتماعية. والتي تطرح أزمتهم فيما يتعلق بالتوظيف والحصول على شاغر في مؤسسات الدولة بشكل مكثف في أغلب دول الخليج والوطن العربي هذه الأيام. والحقيق بالقول أن هذه المخرجات تواجه ثلاث نطاقات من الأزمات يمكن تلخيصها في (تسويق الأقسام الأكاديمية لذاتها ومخرجاتها) / (كيف تسوق هذه المخرجات لذاتها في المجتمع بالدرجة الأولى) / (التوظيف التخطيطي والاستراتيجي لهذه المخرجات بحسب الرؤى الحديثة للدول)
ففي النطاق الأول نجد أن أغلب الأقسام الأكاديمية النشطة في مجال علم الاجتماع والخدمة الاجتماعية هي مجرد (ممر عبور) يقضي فيه الطالب سنوات أكاديمية في مقررات نظرية صرفة ثم ما يلبث إلا أن يتخرج دون أن يكون هناك أي اتصال أو تواصل من قبل هذه الأقسام مع مخرجاتها أو تعريف بها. والأصل في القضية أن تقود هذه الأقسام حراك التغيير فيما يتعلق بتصحيح نظرة المجتمع إزاء العلوم الإنسانية. وأن تقود حراكاً آخر موازي للشراكة مع المؤسسات وتعريفها بالجوانب التطبيقية لهذه العلوم ودورها في حركة الإنماء والتنمية والتخطيط الاستراتيجي. ولكن للأسف فإن هذا الدور غائب أو مغيب بالأحرى عن أقسام العلوم الإنسانية عموماً على الأقل في دول الخليج العربي إلا ما رحم ربي.

وفي النطاق الثاني فإن فكرة هذه المخرجات في التعريف بنفسها للمؤسسات والمجتمع هي فكرة يشوبها نوع من المثالية. فغالبية طلاب الاجتماع على سبيل المثال يعرفون بأنفسهم بأنهم دارسي فلسفة أفلاطون وهيغل. ومحللي النظرية الوظيفية والنقدية. ومفككي أبعاد الرمزية الاجتماعية. ويغفلون الجوانب التطبيقية التي تتسق مع حالة المجتمع وتتسق مع احتياجات مؤسسات الدولة لهذه العلوم ومخرجاتها. وهذا يقودنا للنطاق الثالث في القضية. وهي كيف تنظر المؤسسات إلى مثل هذه المخرجات. وفي الحقيقة فإن النظرة يزرعها الطلاب أنفسهم وهم المسؤولين بدرجة معينة عن تغييرها وإخداث تبديل في معالمها.

إن مخرجات الاجتماع والخدمة الاجتماعية تؤدي ثلاث وظائف رئيسية في سبيل دورها لخدمة المجتمع أو المساهمة في حركة المؤسسات. وهي الوظيفة العلمية أو الأكاديمية والتي تتعلق بالفهم والتنظير والمساهمة في حراك البحث العلمي. وهناك وظيفة مجتمعية تتعلق بمسألة مراقبة الوضع الاجتماعي بمشكلاته وظواهره واقتراح الحلول الممكنة لتجاوز هذه الإشكالات بالشراكة مع مؤسسات متخصصة أو مؤسسات تنفيذية. وهناك الوظيفة الأهم والتي تأخذ شكلاً عصرياً استراتيجياً وتتمثل في المشاركة الفاعلة في تدبير السياسات واتخاذ القرار على مستوى الدولة. حيث تشكل هذه العلوم بعداً استشارياً أساسياً في هذه العملية لا يمكن للدول أن تقود تنميتها الاجتماعية والاقتصادية وحتى السياسية بمعزل عن رؤى ومشورة ووجهات نظر هذه العلوم ومخرجاتها البحثية والتحليلية.

كم من المشاريع المتعثرة اليوم في دول الخليج العربي كان السبب الرئيس من وراء ذلك عدم دراسة الجدوى الاجتماعية للمشاريع ودراسة الأبعاد والمحددات المؤثرة في مسألة نجاح المشروع من عدمه. وكم من مشاريع تنموية أحدثت شرخاً في هوية المجتمع أو تكوينه أو في نظام العلاقات الاجتماعية بسبب عدم دراسة التحديات الاجتماعية لمثل هذه المشاريع ومآلاتها. وقس على ذلك من التحديات التي يمكن مواجهتها عبر خطوط الدراسة الاجتماعية ومستوياتها المختلفة مما تساهم فيه مخرجات العلوم الإنسانية.

في مقابلات العمل العديدة التي خضتها قبل التوظيف كان السؤال الرئيس : كيف من الممكن أن يخدم علم الاجتماع مؤسسة العمل ؟
وفي تقديري هذا سؤال محوري وهام يجب أن تنطلق منه الأقسام الأكاديمية المتخصصة لبناء خططها وبرامجها لتأهيل هذه المخرجات لمواجهة مثل هذا السؤال بجواب عصري يتسق مع اتجاهات الدول ومنظومة التغيرات الحاصلة في سبل إدارتها وتسييرها.

من المؤسف أن نرى مخرجات هذه العلوم تتخلى عن تخصصاتها جانباً لتصبح في وظائف إدارية بعيدة كلياً عن مجال التخصص. أو نرى بعضهم يتحول إلى تجارة بيع التنمية البشرية. أو إلى أعمال لا تمت إلى تكوينهم الأكاديمي والعلمي بصلة تحت مبدأ (تمشية حال). والأكثر أسفاً أن نجد مخرجات معطلة تماماً ينضب معينها الفكري والعلمي يوماً بعد آخر في انتظار فرج الوظيفة..!