جماهير صحار

حيث للجمهور معنى

ادبيات

مونت كارلو والعباءة السوداء والمجتمع المضطرب

مبارك بن خميس الحمداني

تداول بعض الناشطين عبر مواقع التواصل الاجتماعي في عُمان قبل أيام مقطع من فقرة إذاعية عبر إذاعة مونت كارلو بالعربية يتحدث فيه شاب عماني يدعي أنه (ناشط حقوقي في المثلية الجنسية في عُمان), وقد أثارت الفقرة سخطاً كبيراً لدى بعض المتلقين عبر مواقع التواصل الاجتماعي مما دفعت الكثير منهم إلى المطالبة بإيقاف بث الإذاعة في عُمان وهو ما تحقق عبر قيام وزارة الإعلام العمانية مباشرة بإيقاف البث.

وقبلها بأيام جن جنون مواقع التواصل الاجتماعي على صورة متداولة – لا أدري مدى صحتها – تبدو لقرار داخلي لإحدى الكليات الحكومية في عمان تلزم فيها طالباتها باللباس المحتشم والعباءة السوداء وتندد بمن يقدم على مخالفة ذلك. وقد تعددت الآراء حول القضية بين مؤيد ومعارض ومنتقد للمؤيد ومنتقد للمعارض ومنتقد لطريقة التأييد ومنتقد آخر لطريقة المعارضة في حراك شعبوي فاعل قد لا يكون مستحدث في مثل هكذا قضايا تثار بين الحين والآخر في الساحة العمانية.

إذن في عموم شاكلة القضايا المطروحة لا جديد على مستوى ما يطلق عليه (العلك الإلكترونية) فمثل هذه القضايا تأخذ متسعها من النقاش والتداول عبر هاشتاجات اجتماعية افتراضية تتحول في بعض الأحيان إلى هاشتاجات اجتماعية واقعية وتستمر ليومين أو ثلاثة ثم تتلاشى لتحل محلها في النقاش قضية أخرى مستحدثة يتم فيها التداول والنقد وممارسة كافة أشكال التحري والاستقصاء وبت الرأي وغير ذلك.

لست هنا في صدد تقديم رأي مباشر في القضيتين المطروحتين أعلاه. بقدر ما أسعى لتقديم قراءة بسيطة لآلية الطرح والدلالات الاجتماعية العامة التي يقدمها هذا الشكل من التداول لمثل هذا النوع من القضايا الاجتماعية. فحين نفكر في بعض القضايا التي تثور عليها مواقع التواصل الاجتماعي ونتأملها نكتشف أن هذه القضايا قد تكون موجودة فعلياً ومنتشرة ويعلم بوجودها الفاعلون الاجتماعيون في المجتمع ولكن المشكلة أو المربط الرئيس يكمن في مسألة تسليط الضوء الإعلامي عليها مما يعده الأفراد في المجتمع انتهاكاً عاماً لخصوصية المجتمع واختراقاً لمنظومته الأخلاقية والقيمية التي يعتقد الفاعلون بإتزانها على المدى.

وفي الحقيقة فإننا اليوم أمام مجتمع يعتقد في سياق مخيلته الاجتماعية على المدى أن موازين القيم والمبادئ الأخلاقية في حياته قد أصابها عطب وخلل كبير. وهذا الإعتقاد في جزء كبير منه هو اعتقاد زائف حيث أن الفاعل الاجتماعي لو تساءل تساؤلات دقيقة عن حقيقة ذلك في المواقف الاجتماعية المختلفة سيجد أن هذا الاعتقاد لا سند له. بل ويعتقد المجتمع أيضا على المدى أن هناك ظواهر محيطة سواء في الداخل أو قادمة من الخارج أصبحت تهدد البناء الأخلاقي والسند السلوكي بالنسبة للمجتمع. ويعتقد أيضا أن هذه الظواهر باتت تنخر منظومة القيم التي يعدها أهم مقوماته وأسسه.

هذا كله دون وجود تساؤل بحثي ونقاشي عن ماهية القيم التي نتحدث عنها ؟ وعن ماهية الظواهر التي تسهم بشكل حقيقي في تهديد المنظومة الأخلاقية في المجتمع ؟ أو عن مجموعة العوامل التي تهدد النظام السلوكي لأفراد المجتمع ؟

وقبل هذا كله فإن هذا الصورة راسخة في العقل الاجتماعي كونها مؤامرة قادمة من خارج النسيج الاجتماعي دون أي تساؤل أيضا عن حقيقة وجود هذه المشكلات في الداخل بل وتفشيها في المجتمع بشكل كبير..

 

إذن ما نعيشه اليوم هو حالة (المجتمع المضطرب) في مخيلته الاجتماعي وفي العقل السلوكي الضابط الذي تتسلل إليه الكثير من الافتراضات والاعتقادات غير الصائبة حول وضعه العام. ومما ساعد على الوصول إلى هذه الحالة هي منصات العالم الافتراضي التي أصبحت اليوم بمثابة (كاميرا / مجهر) تسلط الضوء / تحجم / تهول بعض القضايا, وفي المقابل تحاول أيضا خلق نموذجين اجتماعيين متوازيين (نموذج متوهم) لمجتمع مثالي خال من الإشكالات والمعوقات النسقية و (نموذج فرضي) متهم باختلال القيم والأخلاقيات وبينهما يضيع الفاعل الاجتماعي في تحليلاته ومناقشاته وآرائه.

 

لا نستبعد غداً أن يتداول هاشتاج أن (فلان يلبس زياً غريباً) أو (يضع نغمة هاتف مخلة بالآداب) أو (يصور أنه يقرأ كتاباً يخدش الأخلاق العامة) فقد سبقتنا بعض دول الجوار إلى مثل هذا التسطيح النقاشي والتدخل في خصوصيات الأفراد ونسق حياتهم الشخصية. وهنا أقول من الجيد أن تكون منصات العالم الافتراضي مساحة نقاشية بناءة للقضايا والمشكلات والأفكار والتحديات التي تمس المجتمع وتعترضه أو يقتضي نقاشها لتطويره والإرتقاء به. ولكن السماح لتفشي حالة الإضطراب في العقل الاجتماعي هذه قد يضعنا أمام منصات لا تفرق بين التدخل في شؤون الأفراد الخاصة وحرياتهم وبين ما يستحق النقاش والتداول من قضايا تمس المجتمع على قدر عال من الأهمية والضرورة.

 

لا يمكنك اليوم أن تفترض أنموذجاً مثالياً لحياة الأفراد في ظل هذا الفتح الالكتروني العظيم وفي عصر المنصات الإفتراضية وما يتعداها اليوم من ابتكارات وتطبيقات. إن محاولة حمل نماذج اجتماعية تقليدية وأحكام وقيم مجتمعية وإسقطاها على حياة الناس وجعلها مقياساً لحركتهم المجتمع لن تكون في ظل هذا الواقع محاولة مجدية. ومن يسعى لمثل ذلك فإن مصيرة الوقوع في مصيدة هذا الإضطراب المجتمعي الذي من علاماته أن يستفز الفرد من مجرد تغريدة عابرة كتبها شخص قد لا تكون له أي قيمة علمية أو فكرية أو معرفية. أو أن يستفز من مقالة كتبها صحفي يطرح فيها رأيه الشخصي في محاولة مباشرة للصدام مع المجتمع. إن المجتمع المتزن هو المجتمع الذي يتجاوز أفراده حالة القابلية للاستفزاز الفكري إلى حالة القابلية للنقاش المتزن والبناء ووضع الأمور والقضايا والأشخاص كلاً في موضعه الطبيعي الذي يستحقه.

 

والمجتمع الذي يسير بخطى راسخة نحو حالة فكرية أكثر اتزانا هو المجتمع الذي يعلو فيه صوت العالم المتسامح على صوت الجاهل المتعصب. ويستمع فيه أفراده لصوت المثقف المنصف أكثر من انجرافهم لعاطفة المثقف الحالم بأمجاد الثورة وممالك البطولة الجيفاروية.

 

قد تكون مونت كارلو مخطئة في طريقة تناولها المستفزة للقضية وفي طريقة تعاطيها مع مجتمع لم يألف مثل هذا النوع من النقاش ولكن يجب أن نتساءل أليست المشكلة واقعاً موجوداً ومنتشراً نحاول بطريقة أو بأخرى السكوت عنه أو التعالي عليه. وقد تكون صورة القرار الداخلي الذي أصدرته الكلية بإلزام الطالبات بالعباءة السوداء غير صحيحة ولكن هل نستطيع أن ننكر أن في المؤسسات التعليمية اليوم من لا يستطيع التفريق بين التعامل مع طلاب معظمهم تجاوز ال 20 عاماً بالطريقة الأبوية التقليدية وبين التعامل معهم على أنهم طلبة علم في علاقة تحكمها القواعد الأكاديمية أكثر من القواعد الأبوية.؟!

 

كل هذه تساؤلات حول حالة (المجتمع المضطرب) الذي تتعقد حالته بتعقد النقاشات فيه والتداولات حوله. ولكن يبقى المخرج الوحيد هو أن نكاشف مشكلاتنا ونكون أكثر وضوحاً في طرح التساؤل حولها وأسبابها وحلولها. لا أن نقاطع الآخرين لأنهم كشفوا حقيقتنا.