كتبه :
مبارك بن خميس الحمداني
قبل سنة تقريباً كنت أتجول مع صديق خليجي في شوارع إحدى الدول الأوروربية. وكان الشارع يشهد ازدحاماً وكثافة بشرية كبيرة. فذلك اليوم كان يصادف يوم عطلة نهاية الإسبوع..
كنا نمر ببعض الأشخاص ممن يفترشون الطريق ويخرجون آلاتهم الموسيقية ويبدأون بالعزف أمام المارة, ويضعون أمامهم صندوق لمن أراد أن يضع لهم بعض النقود.. كنا نصادف رسامين يُجلسون مجموعة من الأشخاص أمامهم ويبدأون في الرسم متجاهلين كل المحيط من حولهم..
وفي زاوية أخرى هناك فتاة ترقص رقصة كلاسيكية على أنغام موسيقى تدور في جهاز تسجيل بجانبها والمارة يستمتعون بالمشهد..
وعلى طاولات المقاهي المكتظة تجد رجل وامرأة يتبادلون الضحكات ويفيضون إلى بعض بالحكايات دونما اكتراث بكل الجالسين الذين يفعلون ذات فعلتهم..
مهرج يرتدي لباساً غريباً ومضحكاً يرقص للأطفال ويلاطفهم في زقاق آخر من الأزقة..
يتساءل صديقي : ما الذي يجعل هؤلاء الأشخاص في هذه البقعة من العالم يمارسون حياتهم بكل هذه العفوية. ولماذا لا يتحرج الفنان من أعين الناس التي ترقبه. ولماذا لا يتمنع الرجل من تبادل الحديث مع هذه المرأة والضحك معها أمام أعين الناس في المقهى.. ولماذا لا نرى مثل هذه المشاهد في عالمنا العربي..؟!
قلت له ببساطة جرب بنفسك. ارتدي بدلة مهرج واخرج في واحد من شوارعنا العربية وافعل ذات الفعلة. وستصبح حديث العرب من المحيط إلى الخليج والعلكة السائغة في مواقع الوصل الاجتماعي..!
قال لي وما الفرق ؟ .. قلت له باختصار : مفهوم الخصوصية..
الخصوصية كمفهوم في أدبيات الأنثربولوجيا وعلم النفس يشير إلى تلك المساحة الخاصة التي تتيح للفرد ممارسة أفكاره ومعتقداه وما يؤمن به مع ضمان عدم المساس بذلك في حدود احترام حريات الآخرين.
والخصوصية الفردية كمفهوم يعتبر دلالة متقدمة على السلوك الحضاري لأفراد المجتمع. بمعنى أنه كلما كان إيمان أفراد المجتمع بحق بعضهم البعض أن تكون له خصوصيته الفردية دون أن يتدخل أحد بها كلما كان ذلك دلالة على أن هذا المجتمع وصل على مستوى السلوك والأفكار الحضارية إلى مرحلة متقدمة تعبر عن نضج واسع.
والناظر في أحوال مجتمعاتنا العربية اليوم يجد أن هذا المفهوم مفهوم جد ملتبس. تتداخل معه معطيات ومفاهيم أخرى لطالما شوهته وتشوهه. وعلى النقيض فإنك في بعض مجتمعات الغرب فإنك تجد أن الفرد يتمتع باستقلاليته وحريته التام في سلوكه الاجتماعي مما يحفظ له أبعاد ومقومات خصوصيته الفردية. وهذا ما يراه العربي ويعيبه في المجتمعات الغربية على أنها مجتمعات (غير متضامنه) أو مجتمعات (مفككة النسيج الاجتماعي).
وتلك إحدى الالتباسات حين لا نفرق بين مفهوم (التضامن الاجتماعي) ومفهوم (الحق في الخصوصية الفردية) ولنضرب مثالاً تفصيلاً على ذلك : فالشاب العربي منذ وصوله لمرحلة الشباب يجد نفسه قابع تحت طائلة مساءلة السلوك الاجتماعي الذي يفرضه المجتمع عليه. وإذا لم يتوفق في الحصول على نتيجة جيدة في الثانوية العامة فإن المجتمع يبدأ في سن منشار الوصم والعار عليه وعلى عائلته. وإذا تخرج من الجامعة وبقي باحثاً عن عمل فإن أكثر سؤالاً قد يفطر ويتغذى عليه هو سؤال “كيف متى بتتوظف” وكيف “ما حصلت بعد شغل..!” وكأنه هو زير التخطيط والخدمة المدنية في بلده..!
وإذا تزوج الفتاة التي أحبها تجد أن المجتمع يبدأ بحوك الحكايات وتأليف الأقصوصات حول هذه الزيجة وتفاصيلها ومبدأها ومنتهاها.. وإذا تزوج وتأخر في الإنجاب فإنه وزوجته لن يسلما من كاميرات الرادار الاجتماعي التي ستظل تلاحقهما بتقارير مشتتة وتأويلات متعددة هنا وهناك..!
لماذا نحشر أنفسنا في كل هذه التفاصيل التي تخص الحياة الفردية للأشخاص من حولنا. لماذا لا نؤمن بحق الآخر في أن يعيش تفاصيل حياته بالرؤية التي يراها ونلزمه بالمسار وخط السير الاجتماعي الذي رسم له قبل الولادة وحتى الوفاة. وخط السير هذا في مجتمعاتنا الخليجية على وجه التحديد هو أن يولد الفرد ويجب أن يكون متفوقاً في دراسته المدرسية. يتخرج ويكون مجيداً في دراسة الجامعية. يتخرج من باب الجامعة إلى باب الوظيفة وبعد أقل من أشهر لابد أن يوزع مظاريف دعوات حفل زفافه. وبعد أقل من سنة يجب أن يكون رزق بالمولود الأول واستقل في بيته الخاص والمملوك له..! وما دون ذلك فيجب مراجعة حياة الفرد في ظل عين “الرادار الاجتماعي”
تقول رودا هوارد، العالمة السياسية الشهيرة :”من دون خصوصية لا يستطيع المرء تطوير الشعور بالفرد البشري كمخلوق له قيمة في ذاته، بغض النظر عن دوره أو دورها الاجتماعي”
وفي ذلك نقول أن الإيمان بحق كل فرد في خصوصيته إنما يتأتى من داخل بنية الثقافة الاجتماعية بشكل عام “فكل مجتمع هو نتاج ثقافته الموروثة فهي الخريطة التي تحدد مساراته في الحياة كما أنها هي التي تحدد أوضاعه الاجتماعية والسياسية والاقتصادية والعلمية والتقنية” وبالتالي فإن مفهوم الخصوصية الفردية إذا لم يتأتى من بنية ثقافة المجتمع ذاته ومن الإيمان العميق بهذه القيمة كخصلة ثقافية رئيسية فإن ذلك يجعله ملتبساً مشتكلاً يدخل في تقاطعات كثيرة مع مفاهيم ومعطيات أخرى أكثر تعقيداً.
ومن هنا فإن مجتمعاتنا العربية كما يقول المفكر إبراهيم البليهي إنما “تتناسل تناسلاً ثقافياً بقدر ما تتناسل تناسلاً بيولوجياً”. وعليه فإن التحدي الأكبر اليوم أمام الجيل الراهن هو كسر حالة التناسل الثقافي الذي يجعل الأفراد مجرد فكرة معلبة تنتقل بكل تفاصيلها من جيل إلى آخر..
لا نريد للأفراد في مجتمعاتنا ممارسة الرقص والتهريج أو التقبيل في الشوارع بحرية ودون احترام للآخر ولكننا نريد أن يحرر الفرد نفسه ويتحرر على مستوى المفاهيم الخاصة به والتي تشكل لبنات حياته الأساسية ومنها حقه في اتخاذ مساره العلمي ومساره المهني ومساره الزواجي وشكل العيش الذي يريد لحياته أن تسير عليه..
إن الرادار الاجتماعي بقدر ما هي فكرة مثمرة في جوانب معينة. بقدر ما هي فكرة هدامة للإنتاج والحرية في سياق المجتمع والتحرر من هذه الفكرة يجب أن يبدأ من إيماننا العميق بحق الآخر في خياراته وفي خصوصيته الفردية لكي يحترم الآخرون حقنا في ذلك ويقدروا مساحة العيش التي خلقت لنبنيها بأسئلتنا وأجوبتنا.. لا بإجابات الآخرين المعلبة..!