كتبه/ مبارك بن خميس الحمداني
لا تكاد هذه الأيام تضع صورة كتاب على إحدى مواقع التواصل الاجتماعي أو تناقشه مع زملائك حتى ينبري لك أحد مهم بالقول ” مثقفين آخر زمن” , ولا تكاد تبدي رأياً مخالفاً للرأي السائد في قضية ما وأنت على قناعة به حتى ينبري لك مجموعة منهم بالقول “وش تنتظروا من مثقفين آخر زمن”. لا تكاد تقترح على زميل لك الجلوس في أحد المقاهي لأجل القراءة حتى يصدمك بالقول “عاش مثقف آخر زمن”.
ونحن نتأمل في راهنية مثل هذه العبارات والوصم الذي يطلق على مثل هذه التصرفات اليوم نخلص إلى أن لفظة أو تسمية المثقف وكل ما يرتبط به من رموز وممارسات وأوصاف تحولت بعد إن كانت (وسام مجتمعي) ومرت عبر كونها (جرم وإدانة) في محاضن الدول الاستبدادية إلى كونها اليوم (وصمة عار) ولفظ منبوذ صاحبه في مفهوم ثقافة بعض المجتمعات وخصوصاً الخليجية منها..
ولم أجد توصيفاً لمأساة المثقف اليوم كدقة توصيف ياسر حارب في مقالة بعنوان “المثقف الحر” حين قال : “إن مثقّف اليوم يُصلب كلّ نهار على ألسنة الناس، وتُدّق في رأسه مسامير عُقَدهم وتأزماتهم النفسية، ولكنه ليس مُخلّصاً حتى يُدير لهم خدّه الآخر…”
ولكن حين نتساءل عن مكمن الأزمة التي أودت بصورة المثقف إلى هذا المأزق وهل هي كامنة في الثقافة كنشاط بشري (مجموعة أفكار وقيم ومعتقدات المجتمع). أما في الثقافة كانتاج معرفي (ما ينتجه المثقفون من أفكار وآراء ووجهات نظر في قضايا مختلفة). نجد حتما أن الأزمة إنما هي محصلة تلاقي خيطين أساسيين , يكمن الأول في تراجع قيمة المثقف نتيجة حكم المجتمعات والتاريخ بفشل مشاريعه وعدم تطابقها مع سقف الطموح الاجتماعي الذي كان ينظر له المجتمع من خلاله. أما الخيط الآخر فيكمن في موجة الانفتاح المعرفي والفتوحات التواصلية والإعلامية التي شكلت أدوات مشاركة معرفية أضعفت أدوات المثقف نفسه..
فالربيع العربي على سبيل المثال ساهم بصورة كبرى في كشف آفة الفشل الذريع لقطاع كبير من المثقفين العرب ممن كانوا يقضون أعمارهم في مشاريع واهمة أو متوهمة فكما يقول الباحث عبدالستار قاسم : “بدل أن يكون الحراك العربي فرصة للبناء والتقدم والتطوير والنهوض الحضاري، تحول في كثير من الأحيان إلى مأساة تولد أحزانا وجروحا عميقة في النفوس العربية، وبدل أن ينهض المثقفون والمفكرون لتوجيه دفة هذا الحراك نحو خير الأمة وعزتها، انزوى كثير منهم بعيدا عن المشهد، ومنهم من بقي يرفع راية الاستبداد مدافعا عن المستبدين، ومنهم من رأى في التخلف فضيلة، وتمترس عنده مدافعا ومؤازرا..”
وعلى الرغم من أن كل المشاريع الفكرية والسياسية التي كانت تشكل أيقونات لعمل المثقف العربي وأطروحاته للتغيير ومنها الأطروحات الليبرالية أو الإشتراكية أو حتى الدينية فإن “السؤال كان يفترض أن يذهب ليس باتجاه الأفكار نفسها فحسب، بوصفها نسبية وتاريخية؛ بل، أيضا في اتجاه المثقف نفسه بوصفه الحامل، أو المتمثل لتلك الأفكار، ومحاولة تبيئتها في أرضها الاجتماعية الجديدة. فتصور المثقف لذاته كمالك للحقيقة جنح به إلى الوصاية الفكرية على المجتمع، لذلك وقع المثقف بنوع من (خداع الأفكار الكبرى) كما يقول علي حرب…”
ومن جانب آخر فقد شكلت الثورة المعلوماتية والانفتاح المعرفي بفعل موجة العولمة ووسائل التواصل الاجتماعي مصادر واسعة للمعرفة غيرت صورة ونسق انتاج المعرفة في السياق الاجتماعي. فلم يعد المثقف وحده هو القابض على مصادر المعرفة والمتحكم في انتاج الرأي القائم عليها, ومع هذا سقطت العديد من تعرفيات المثقف الواهمة كتعريف إدوارد سعيد الذي يعرف المثقف بوصفه “وُهب ملكة عقلية لتوضيح رسالة، أو موقف، أو فلسفة، أو وجهة نظر، أو رأي، أو تجسيد أي من هذا..” وتعريف جوليان بندا لجماعة المثقفين بالقول“عصبة صغيرة من الملوك ـ الفلاسفة الذين يتحلون بالموهبة الاستثنائية، وبالحس الأخلاقي الفذ، ويشكلون ضمير البشرية”
وأصبحت الأدوات والوسائل المعرفية والإعلامية المتاحة تمكن الجميع من المشاركة في الفهم والتفهم, ولم يعد هناك حاجة قصوى لعلامة ثقافي يظهر في هذه القناة أو يكتب في تلك الصحيفة أو يتناول هذا المبحث أو يبرر تلك القضية. ذلك أن وسائل الوعي وأدواته أصبحت متسعة اتساعاً افقياً وعموديا في الملكية الاجتماعية. وهذا بدوره تطابقت نتيجته مع مقولة الغذامي حين يقول أن هذه الموجة” أطلقت إمكانيات التأويل الحر مثلما وسع دوائر الاستقبال وساوى بين الناس في ذلك. وتراجعت النخبة. أو لعلها سقطت وسقطت معها الوصاية التقليدية ورموز الثقافة التقليديين الذين كانوا يحتكرون الحق في التأويل وإنتاج الدلالات…”
اكتب هذه المقالة وأتابع مقطعاً يوتيوبياً من البرنامج الشبابي “والله نستاهل” الذي يخصص حلقاته لمناقشة بعض القضايا الوطنية بأسلوب شبابي مبتكر وبمدة عرض لا تتجاوز عادة 10 دقائق. وأنا أتابع حجم التفاعل الواسع مع البرامج من مختلف مؤسسات وقطاعات وأفراد المجتمع على اختلافهم أتساءل : ماذا لو كانت نفس القضية يطرحها مثقف عماني معروف في صحيفة يومية. هل سيكون حجم التفاعل معها بنفس هذا الحجم..
وقبل ذلك أتساءل وأنا أكتب هذه المقالة : كم سيقرأها عبر هذه المنصة. وماذا لو قدم نفس القضية أحد شخصيات الستاند أب كوميدي الشهيرة في قالب كوميدي فكاهي كيف سيكون التفاعل معها..!؟
في تقديري لقد ولى عصر المثقف. ونحن على مشارف مرحلة تاريخية فاصلة في عصر ما بعد المثقف. ذلك العصر الذي تتساوى فيه ملكية الأفراد في المجتمع لمصادر المعرفة وأدواتها. وتتساوى فيه مقدرتهم على المشاركة بآرائهم وأفكارهم فيما يخص قضاياهم. ومعه تتساوى إمكانيات الفهم والتفهم وكشف زيف السلطات في المجتمع. ألا تلاحظ عزيزي القارئ أن كل ما سبق كان بحوزة المثقف وحده..!
هي مجرد آراء وقراءات.. فهل نقول وداعاً للمثقفين !