جماهير صحار

حيث للجمهور معنى

ادبيات

دكتوراة في تقطيع البطيخ

111

مبارك بن خميس الحمداني

وأنا أفكر في كتابة هذا المقال استحضرت مشهد من المسرحية الكوميدية الخالدة “مدرسة المشاغبين”. حين تقول الأستاذة لمدير المدرسة أنها تحمل ماجستير في الفلسفة فيسأل عادل إمام سعيد صالح : “هو إيه ده الماجستير , قبل الإعدادية ولا بعد الإعدادية ؟” فيجيب سعيد صالح :”قبل محطة البنزين على طول , عند الحج محمود”..

ورغم طرافة المشهد وكوميدياه إلا أنه ينسحب اليوم على ظاهرة اجتماعية أصبحت مؤرقة جدا بالنسبة لمجتمعاتنا وهي إفراز آخر للتشوه الجذري الحاصل في أنظمة التعليم, مما ينعكس على تشويه أثر العلم في المجتمع. فقبل أيام دعانا أحد الأصدقاء لوليمة بمناسبة حصوله على شهادة الماجستير من أحد الدول الغربية وقد أنهى مشواره هناك بتقدير امتياز. والغريب أنه خلال الوليمة التي حضر لها عدد كبير من الأصدقاء, كان الجميع يبارك له ويتمنى له مواصلة مشوار الدكتوراة, والبعض يسأله عن أحوال البلد هناك “طبيعة الجو , أسعار المنتجات , الحرية والنظام الأمني , النساء الفاتنات …الخ”, لكن مع ذلك كله لم يفكر أحد في سؤاله عن موضوع رسالته التي قدمها في الماجستير, وأكاد أجزم أن الغالبية منهم لا يعرفون في أي تخصص قدم رسالته رغم أن غالبيتهم إما طلاب على مقاعد الدراسة الجامعية أو خريجيين جامعيين..!

هذا ينسحب على شريحة كبيرة من المجتمع, أصبحت اليوم الشهادات والدرجات العلمية بالنسبة لها مجرد أداة من أدوات التباهي الاجتماعي. فيكفي فلان شرفاً وفخراً أن اسمه مسبوق بحرف (د.) ليتصدر المجالس, وليكون أول المدعوين للمناسبات الاجتماعية, وأول المقدمين في الخطابات الأهلية وغيرها دون أن يعرف أحد هو في أي تخصص وكيف حصل أساساً على الشهادة أو ما هي اهتماماته العلمية.

وفي مجتمعنا أصبح التسابق للحصول على الشهادات العليا (ماجستير / دكتوراة) ميداناً حامياً في السنوات الأخيرة خصوصا في ظل التسهيلات المتبعة وبرامج الابتعاث التي تقدمها مؤسسات عديدة في الدولة وكأن الحصول على هذه الشهادات أصبح في ذاته (الغاية الأسمى) برغم كونه أساساً ما هو إلا مجرد طريق ممهد ووسيلة يفترض بها أن تكون لغايات كبرى في سبيل خدمة المعرفة والإنتاج العلمي والبحثي.

فالأصل في فلسفة منح شهادات الدراسات العليا (الماجستير والدكتوراة) هو منح الشخص رخصة علمية لبداية مزاولة الانتاج العلمي, والانتقال من حالة (تلقي المعرفة) إلى حالة (انتاج المعرفة) والبحث في قضايا العلم والتخصص والمشاركة في بناء المنهج وإثراء المعرفة. لكنها أصبحت اليوم في الكثير من بلدان العالم العربي أقفال للمعرفة لا مفاتيح لها.. وعليه فإننا أصحبنا اليوم نحول من هذه الشهادات إلى أدوات اجتماعية تستخدم في غير سياقها العلمي والمعرفي الذي يفترض بها أن تكون فيه.

ولنوضح ذلك بطريقة أكثر علمية فحينما نتحدث عن الوضع الحالي في السلطنة, حيث تشير احصاءات العام عام 2014 إلى وجود (1304) من حملة الدكتوراة من العمانيين، و(5954) من حملة شهادات الماجستير. وفي المقابل تشير الإحصاءات التي قدمتها منظمة المجتمع العلمي العربي حول الإنتاج العلمي في الوطن العربي إلى أن عدد الأوراق العلمية المنشورة للباحثين من السلطنة خلال النصف الأول من عام 2013 لم تتجاوز 203 ورقة في كل التخصصات ومن مختلف المؤسسات. في حين أنها كانت في نفس الفترة من عام 2012 تعادل 210 ورقة علمية.

ونحن نتحدث هنا عن الانتاج العلمي المنشور بشكل عام سواء كان للعمانيين أو الوافدين العاملين في السلطنة في مختلف مؤسسات البحث والتعليم. إذن نحن أمام بون شاسع بين عدد الأشخاص الحاصلين على الشهادات العليا وبين حجم الانتاج العلمي المنشور الصادر من السلطنة. – رغم أنني لا اقول أن الأوراق العلمية مسألة تخص حملة الشهادات العليا وحدهم-  وهذا يطرح التساؤل الأهم : أين هو الإنتاج العلمي لهذه الأعداد من حملة الشهادات العليا في السلطنة , وأين هي مساهمتها في إثراء حركة المعرفة والبحث العلمي, أم أن المشوار قد انتهى عند مسمى “استاذ” أو الاسم المسبوق بـ (د.) حتى وإن كانت هذه (د.) في تقطيع البطيخ..!

وعموماً لا ننكر وجود كفاءات علمية حقيقية في السلطنة وباحثين مجتهدين في مختلف التخصصات وفروع المعرفة ولهم انتاجهم العلمي وإن لم يكن بالشكل المكثف ولكن هذا لا ينسف قيمتهم, ولكننا نتحدث عن حركة كلية وعن ملامح تشكل مدرسة علمية عمانية حقيقية تساهم عبر نتاجها العلمي والمعرفي في قيادة حركة التطور والتنمية في البلاد إضافة إلى إحداث تغيير نوعي في مفاهيم العلم والمعرفة الراسخة في المجتمع. وهذا يطرح تساؤلات أعمق حول صورة الباحث المثقف المحتك بالمجتمع والمؤدي لمسؤوليته الاجتماعية وليس القابع فقط في صومعة بحثه وبين دراساته. وأيضا تساؤلات أخرى عن المؤسسات التي تعرف المجتمع بجهود العلماء والباحثين في المجالات المختلفة.

لا أقول في هذا السياق أن الشهادات العليا مشكلة في حد ذاتها ولكن أن يصاب المجتمع وأفراده بظاهرة (المسترة / والدكترة) تلك الظاهرة التي تحول فلسفة الشهادات من كونها رُخص لإنتاج المعرفة إلى رُخص للتباهي والسطوع الاجتماعي فهنا تكمن المشكلة وتتجذر مشوهة أثر العلم في المجتمع وأهدافه السامية.

وأتساءل ختاماً لماذا لا تتجه مؤسسات التعليم العالي في وضع شروط القبول للدراسات العليا لوضع شروط متعلقة بقياس انتاج المتقدم العلمي. فالشخص المتخرج بدرجة البكالوريس وهو عازم على اكمال مسيرة الدراسات العليا يفترض فيه الدافعية للعلم والبحث والإطلاع. وكذلك المرحلة الانتقالية بين الماجستير والدكتوراة. بحيث يكون القياس معتمداً على الأوراق العلمية أو الكتب التي أصدرها الشخص والمؤتمرات العلمية التي شارك وحضر فيها ولا تكون فقط محكومة بمعدل تراكمي أو معدل تخرج معين ؟!

بهذه الطريقة على الأقل نضمن أن يكون الشخص الحاصل على درجة علمية معينة هو شخص محتك بحركة الانتاج العلمي وقادر على المشاركة فيها. وبالتالي نحد من ظاهرة كون الدكتوراة والماجستير مجرد نوع من أنواع التفاخر والتباهي الاجتماعي ووسيلة للترقي المهني دون انتاج علمي حقيقي.

6 تعليقات

  1. الشيمة خلنا ناخذها قبل بعدين خليهم يقننوا… مافينا بارض للركيض .. تسدنا ااوظايف بالحسرة.

  2. فعلا اصبحت ظاهرة الفشخرة
    و خذ مثالا وزارة التربية و التعليم
    ماذا تحقق من حملة شهادات المسترة و الدكترة في طرق التدريس و المناهج
    و علم النفس و الادارة التربوية ؟؟؟؟
    لا شيء يذكر
    واني اذكر احد الموظفين عندما عاد من رحلته الدراسية رفض مزاولة عمله السابق وهو الزيارات الاشرافية كمشرف اداري متحججا بانه يحمل الدكتوراة و لابد من وظيفة ادارية اعلى
    هذا المفهوم الخاطيء للشهادات العليا هو ما يجعلها تتكدس و لا نلمس وجودها

التعليقات مغلقة.