الأعياد الوطنية : قراءة في دلالة الثوابت والمرتكزات.
مبارك بن خميس الحمداني
تتخذ الأعياد والمناسبات الوطنية دلالات رمزية في ذاكرة الشعوب والمجتمعات. وتتخذ هذه الدلالات معانٍ ظرفية تحتمها الأحداث والتحولات في توالي السنون وتعاقبها. ونحن نحتفي بمنجز الـ 46 عاماً على عمر نهضة عمان الظافرة. لنحتفي بدولة تبني منجزات نهضتها بتدرج وشمولية. وتتخذ من السلم الداخلي عنواناً لها لمد يد الصداقة والعون للإقليم والعالم بشكل عام.
إنها دولة تراهن على فكر شعبها بالمقام الأول. وتبني أسس تطورها وفق رؤى محكمة تهتدي بفكر القائد المستنير. الذي لم يكن مجرد رمز لقيادة وطنية. بل كان مفكراً أسس لوقائع من الثوابت والمرتكزات للعمل على مستوى الداخل والخارج العماني. وإذ تحتفل السلطنة اليوم بهذه الذكرى المجيدة فإنني استذكر الكلمات التي قالها جلالة السلطان قابوس المعظم في الإنعقاد السنوي لمجلس عمان للعام 2012 حين قال : “ولقد أثبت العمانيون خلال الحقبة المنصرمة أنهم يتمتعون بمستوى جيد من الوعي والثقافة والإدراك والفهم في تعاملهم مع مختلف الآراء والحوارات والنقاشات التي تنشد مصلحة هذا البلد ومصلحة أبنائه الأوفياء. و‘ننا لعلى يقين من أن هذا الوعي سيزداد وأن هذه الثقافة سوف تنمو وتترسخ من خلال الدور الذي تقومون به أنتم أعضاء مجلس عمان في مجال تبادل الرأي وتداول الافكار وبفضل النهج الحكيم الذي تجلى والذي سوف يستمر بإذن الله في تناولكم لمختلف القضايا بالدرس والتدقيق ولكل الآراء بالتمحيص والتحقيق.”
إنها كلمات موجزة في سردها. عميقة في دلالاتها الوطنية. وما تحمله من توجيه بالغ لرفع مستوى الوعي الذي يؤدي إلى ثقافة عمل وطني مخلص ومتفان.ففي الوقت الذي تغتال فيه القيادات عقول شعوبها. يراهن السلطان قابوس على فكر شعبه. وعلى وعيهم وعلى ثقافتهم. ويؤسس لحالة تدافع فكري تهتدي بأسس الحوار وأخلاقياته. وتلتزم بحدود المشاركة والنقد البناء وإطاراته. لتؤسس لواقع وطني حيوي. قوامه فكر الإنسان وتزايد وعيه. وما الوسائل والطرائق الشوروية والبرلمانية التي وضعتها الحكومة إلا مسارات فاعلة للمشاركة في بناء المجتمع في كافة المجالات. إذا ما أحسن استخدامها وتوظيفها بالشكل الأمثل الذي يضع من الوطن قيمة عليا. تحدد ما دونها من القيم وتوجهها.
إن الدلالة التي أستقرأها في عمق هذه المناسبة لتضعنا اليوم أمام سؤال (الثوابت والمرتكزات) في سياسة عمان الداخلية والخارجية. هذه الثوابت التي تشكل إطاراً مرجعياً لصورة عمان اليوم. عمان التي ما فتأت تمد يد الصداقة إلى كافة أقطار العالم. وتلعب دور الحياد الإيجابي وتؤسس للنظرة السياسية (الأنسنية) في التعامل مع المعطيات والتحولات في إقليمها. مؤكدة على قيمة الإنسان بوصفه (إنسان قبل كل شيء) وحريصة على ما يضمن سلمها الإقليمي وما يعكسه ذلك على حالة السلم الداخلي.
ولقد أسست هذه الثوابت والمرتكزات التي أنضجت التجربة العمانية لواقع دولة تسير بإتزان في ممارسة سياساتها وتنظر بعمق أكبر لكافة المعطيات (سياسية وجغرافية وتاريخية) في تعاملها مع القضايا والتحولات. فثابت اعتماد “منهجية التخطيط المسبق” بما يعكسه من التزام بأسس الموضوعية. والتعاطي بطرق إيجابية “وعدم الانجراف نحو القرارات المتسرعة والطائشة وغير المدروسة والمحكومة بالعاطفة والمباشَرة.” كان ثابت مهماً أسست على ضوءه الكثير من مبادرات السلم وحقنت الكثير من إرهاصات العدوان والكراهية التي كانت ستنشأ في المنطقة. بل كان المنطلق الأساسي معتمداً بصورة أو بأخرى على “عدم الإنحياز إلى أي طرف دون حق والأخذ بالحوار وأسبابه والحيادية وذلك بعد أن رأت أن معظم التوترات الدولية والنزاعات العالمية، بل والحروب في جميع حالاتها قد تأتت نتيجة الابتعاد عن المدارسة العلمية والموضوعية.”
ولقد أسس الفكر السامي لجلالة السلطان لسياسات تعتمد على الإحترام التام لموروث المجتمع وتكوينه التاريخي والديني والحضاري. فكانت كل الممارسات في الداخل والخارج مبنية على احترام هذا المبدأ بما يعكسه من أعراف وتقاليد لا تعطل مسيرة الإنماء والتنمية. بل تضعها في قالب متفرد ومتميز ببصمة المجتمع وبهويته التاريخية. وهو ما ينعكس على التأكيد على الإنتماء الإسلامي والعروبي كقيم ماثلة في موجهات السياسة الخارجية. وفي التعاطي مع قضاياها وما يطرأ من تحولاتها. ذلك أن هذه الموجهات استفادت أيضا من ناتج التاريخ ودرسه وتدارسه بما أن لعمان تاريخها الحضاري الضارب والمليئ بالأحداث والمنعطفات فكان لابد من دراسة هذا التاريخ للاستفادة من خلاصاته العامة. في سبيل سد ثغور الأخطاء التي قد تنجم عن القرار السياسي والإداري. وتجنب الوقائع التي أدت إلى تفكك النسيج المجتمعي في مرحلة من المراحل. أو إلى الهزات الحضارية التي قد أصابت المجتمع في كينونة من الزمن.
ثم أن الفكر المرجعي الذي تتأسس عليه السياسة العمانية مشتق أساساً من تكوين الشخصية العمانية التي صقلتها تجارب الزمن. وقومتها نتاجات التاريخ. فكانت شخصية هادئة مسالمة تنظر بعمق إلى الأمور وتجلياتها. وتتبصر قراراتها ببعد نظر واسع. وبعقلانية أكبر وبهدوء أعمق. فكان الحياد الإيجابي هو المساحة الرحبة التي يتخذ فيها القرار السياسي ويمارس فيها عقلنة اتجاهاته. وكان الحرص على المصلحة والبناء المجتمعي ورعاية التكوين الداخلي للبلد هو القيمة الأعلى التي توجه قرار الخارج وسياساته.
إننا إذ نستعرض مرجعيات الثوابت والمرتكزات لنأمل تكون المناسبات والأعياد الوطنية فرصة لترسيخها. وإجلاء نقاش موسع فيها. وأن تتخذ الدولة عبر قطاعاتها الثقافية والتربوية والتعليمية خطوات أكثر جرأة في سبيل تحويل هذه الثوابت والمرتكزات والخطوط العريضة لسياسات عمان الحديثة إلى واقع تعليمي يسهم في نشأة جيل يتسلح بهذه الثوابت ويضعها خارطة طريقة لشخصيته. لبناء الشخصية العمانية المتزنة التي تعكس صورة الدولة بتوجهاتها الحيادية والإيجابية والمتعلقة على ذات الشخصية. والتي يمكن أن نراهن عليها وتراهن عليها القيادة الحكيمة بموعيها ومدارك ثقافتها. ذلك أن الفكر السياسي العماني ليس فكراً مشتقاً جله من النظريات السياسية. وإنما هو فكر يتأسس على واقع المعطيات ويحترم خصوصية المجتمع وتكوينه. ويلتزم بالإطار الجيو سياسي في تعامله مع الأحداث والتحولات.
إن هذه الثوابت والمرتكزات ينبغي أن تكون حديث مجتمع سائر في مؤسساته التعليمية والأكاديمية. وحديث إعلام يبني سياساته على ترسيخها في عقل المجتمع بأدواته وإمكاناته. وحديث مجتمع يتدارسها ويتفهمها عبر الوسائط الثقافية والاتصالية بما يمكنه من صيانتها والبناء عليها. لتستمر عمان التفرد في إقليمها ومحيطها الدولي. وتستمر مسيرة البناء والتنمية لعمان الخير على أسس قويمة ومبادئ واضحة رصينة.