‏”اللياقة الإلكترونية , والحكة الإلكترونية”
مبارك بن خميس الحمداني

قبل أيام كنت أحاور أحد الأصدقاء الخليجيين من مشاهير تطبيق التواصل الاجتماعي “سناب شات” حيث يصل متابعينه عبر التطبيق إلى مئات الآلاف. وكان يقول : “اضطررت في أحد الأسابيع للسفر لأداء مهمة عمل. وكان جدول الأعمال مزدحماً لدرجة أنني لم أجد الفرصة للتواصل مع أي شخص خلال ثلاثة أيام متوالية. وحينما عدت لفتح تطبيق سناب شات. شعرت وكأنني فصلت عن دورة التاريخ ومجرى أحداث العالم لمدة ثلاث سنوات وليس ثلاثة أيام.”

ويضيف : “المسألة اليوم لم تعد مسألة إدمان كما كان يروج لها علمياً وبحثياً مع بداية ظهور مواقع التواصل الاجتماعي. ولكنها أصبحت متعلقة بمدى قدرة الفرد على استيعاب الضخ الهائم من المعلومات والأحداث والتفاصيل التي تسكب في هذه المواقع يوماً بعد آخر…”

فكرت في حديث الصديق ملياً, وحاولت قياس هذه الحادثة على مستوى مختلف مواقع التواصل الاجتماعي. جرب اليوم أن تنقطع عن فيس بوك لمدة شهر. ثم ادخله وحاول استيعاب ما يطرح فيه من قضايا ومناقشات ستجد نفسك وكأنك أمام مجتمع مختلف لا تدرك لغته ولا أبجديات قضاياه ولا تستوعب النقاشات الدائرة فيه.

جرب أن تغلق تويتر لمدة أسبوع وحاول أن تعود لتتابع القضايا والأحداث المطروحة. وستجد نفسك تنقب في مئات التغريدات بحثاً عن خيط مبتدأ الخبر أو الحادثة لكي تستوعب ما يدور من نقاشات.

جرب اليوم التخلي عن تطبيق واتس أب لمدة خمسة أيام عمل. وعد وستجد نفسك تائهاً في التفاصيل والنقاشات والرسائل التي لا تدرك على ماذا تم بناؤها والنقاش حولها.

في تقديري لقد أصبح الكائن الاجتماعي (التفاعلي) اليوم بحاجة إلى نوع مختلف من أنواع اللياقة. فبقدر حاجتنا اليوم إلى اللياقة البندية واللياقة العقلية نحن في أمس الحاجة إلى نوع مبتكر وهي “اللياقة الإلكترونية” وهي تلك القدرة على الاستيعاب والفهم والتماهي والتعاطي مع كل جديد مستجد يطرح في مواقع الوصال الاجتماعي والمتغيرات التي تحدث وطريقة تعاطي المستخدمين مع مختلف الأحداث والقضايا.

وهذا الشكل من أشكال اللياقة يفترض من الشخص إحدى مسارين : إما أن يكون مدمناً فعلياً لهذه المواقع لحظة بلحظة. مشارك ليس فقط على مستوى المتابعة وإنما على مستوى صنع الحدث. وإما المسار الآخر الذي يفترض عليه أن يحدد اهتماماته من هذه القضايا ويركز عليها. ولا يكترث ببقية الأحداث والمواضيع الأخرى التي تحصل. وهو المسار الأكثر جدوى في تقديري. لأن المسار الأول يفترض عليك الوصول إلى مرحلة ما بعد الإدمان وهي مرحلة أن تصبح هذه التطبيقات والمواقع جزء تكويني من أجزاء شخصيتك وبنائها النفسي والعصبي. وقد تقود هذه الحالة إلى ما يعرف “باضطرابات التواصل الاجتماعي” وهو ما كشفت عنه دراسة حديثة من جامعة في ألباني، عاصمة ولاية نيويورك حيث كشفت أن ما يقدر بنحو 10% من المستخدمين للمواقع الاجتماعية يعانون مما تصفه الباحثة الرئيسية هورميس بـ “اضطراب في استخدام الشبكات الاجتماعية”، وكشفت الدراسة أن الأفراد الذين يعانون من إدمان وسائل التواصل الاجتماعية، أظهروا احتمالات أكبر لحدوث مشاكل مع تناول المشروبات الكحولية والمخدرات.

هل تتخيل عزيزي القارئ أنه خلال كل (دقيقة) يتم عرض 6 ملايين صفحة عبر “فيس بوك” , ويتم نشر 100 ألف تغريدة جديدة عبر تويتر , ورفع 30 ساعة من الفيديوهات عبر يوتيوب. ونشر 6 مقالات جديدة في ويكيبديا.. هل تتخيل كل هذه الأرقام المهولة في مقابل قدرتك (لياقتك الإلكترونية) على استيعاب مضامينها ومحتواياتها وما تفرزه من نقاشات ومعطيات أخرى.

قبل فترة بسيطة كنت أتابع عبر يوتيوب مقابلة مع أحد المتخصصين في علم النفس يناقش فيها موضوع “تأثير مواقع التواصل الاجتماعي على عمل الدماغ” ويذكر أنه في دراسة علمية أجريت في جامعة كاليفورنيا وجد أن 89% من الطلاب الذين شملتهم الدراسة يعانون مما يعرف “الحكة الإلكترونية” وهي عدم قدرتهم على الثبات العصبي أو الصبر إذا ما سمعوا هواتفهم ترن بإشعارات جديدة عبر تطبيقات التواصل الاجتماعي. حتى وإن كانوا في أوج أعمالهم وإنشغالهم. ويقول أن لهذا الأمر تجليات علمية دقيقة على مستوى عمل الجهاز العصبي بالنسبة لهؤلاء الأشخاص. وهنا ندرك أن الأمر لم يعد مجرد (دواع وعظية) تحذر من الإدمان على هذه المواقع بدعوى أنها تشغل الوقت. ولكن الأمر أصبح له تجلياته العلمية والطبية الدقيقة التي يمكن قياسها وملاحظتها.

والحكة الإلكترونية كما تم توصيفها في المقابلة ترتبط بما جاء في الدراسة السابقة لهورميس التي تحدثت أن “مسألة “الإخطارات الجديدة – notifications” وعدم القدرة على التنبؤ بما ينشر من محتوى جديد، يجعل ذلك المستخدمين باستمرار مرتبطين بأجهزتهم، وأحد أهم المخاطر في تحول هذا الارتباط إلى إدمان هو إنكار المستخدم نفسه لحقيقة أنه أصبح مدمنا بالفعل، بينما يتحول الفيسبوك تدريجيا إلى جزء مهم من حياته اليومية، لا يمكنه التخلي عنه بسهولة، ما يشبه الإدمان الفعلي.”

أسأل نفسك اليوم عزيزي القارئ : هل أنت مصاب بهذه الحكة الإلكترونية. وإن كنت كذلك فسارع بعلاج نفسك وتحصينها من هذه الحكة. جرب الابتعاد لفترات عن هذه التطبيقات والمواقع وقس مقدار لياقتك الإلكترونية.
وإن وجدت أن هذه اللياقة متدنية جداً. فعليك باتباع أحد المسارين المذكورين أعلاه. !

جربت قبل فترة الابتعاد التام عن تطبيق التواصل الاجتماعي “فيس بوك” بعد إدمان دام قرابة ست سنوات. ورغم أن نسبة كبيرة من علاقاتي الواقعية اليومية بدأت افتراضية إلا أنني أشعر حينما أجلس مع أحد الأصدقاء ويبدأ الحديث بما يدور في هذا الموقع وما طرح فيه أنني منفصل تماما عن دورة الحياة وتفاصيلها. ولكن في نفس الوقت أشعر براحة نفسية وعصبية عالية. لأنني حققت أحد أهدافي التي رسمتها مطلع هذا العام وهو أن تكون لدي أهدافي واهتماماتي الواضحة ولا أشغل نفسي بقضايا وأحداث لا تمت لي أو إلى اهتماماتي بصلة. هجرت السياسة والأخبار المحلية. وقضايا الثقافة. وشكلت اهتماماتي العلمية المحددة. حددت هوية الحسابات التي أتابعها في مواقع التواصل الاجتماعي. والوقت الذي أستطيع التغريد والكتابة فيه. عادت ساعتي البيولوجية للإنضباط من جديد. وعاد مستوى التركيز في أداء مهامي العملية إلى وضعه الطبيعي.
لقد نجحت نسبياً في وجهة نظري في خلق لياقة الكترونية جديدة تتعلق باهتماماتي فحسب. وهذا هو المسار الأكثر جدوى في وجهة نظري في ظل هذا الفتح المعلوماتي والتعاظم التقاني..

وأنت اسأل نفسك : متى ستحدد هويتك ولياقتك الإلكترونية. ؟!