البترول ونحلة الصمت وأحوال مجتمعنا.
مبارك بن خميس الحمداني
تعود بي الأزمة الحالية (أزمة تسعير الوقود) ومتعلقاتها والنقاش الوطني الموسع حولها إلى تذكر نظرية فريدة كنت أقرأ عنها منذ أعوام في نظريات الإتصال والرأي العام, هذه النظرية هي التي أسستها الباحثة الألمانية إليزابيث نويل نيومان في عام 1974 وجابت العالم واللقاءات العلمية محاولة التعريف بنظريتها وتطويرها حتى أصدرتها في كتاب يحمل عنوان (النحلة الصامتة) أو دوامة الصمت.
ونظرية النحلة الصامتة تشير في إحدى فرضياتها إلى أن “الأشخاص الذين يعتقدون أنهم يحملون وجهات نظر تمثل الأقلية يتجهون إلى الصمت وعدم التعبير عن آرائهم, بينما يتجه الذين تتوافق آرائهم مع رأي الأغلبية إلى التعبير عن آرائهم.” وتوضح أيضاً نيومان أنه “في القضايا المختلفة يجد الفرد نفسه في أحد جانبين إما مع الأغلبية أو مع الأقلية. فإذا اكتشف أن رأيه يتفق مع رأي الأغلبية فإن ثقته في نفسه تزداد ويكون قادرا على التعبير عن نفسه بقوة دون خوف من الإنعزال, وأما إذا اكتشف أن الرأي الذي يعتنقه لا يتفق مع رأي الأغلبية فإن ثقته في نفسه ورغبته في التعبير عن هذا الرأي تقل كثيرا. حيث تأخذ رغبة أو اتجاه فرد إلى الحديث والتعبير عن رأيه واتجاه فرد أخر إلى الصمت شكل عملية دوامة تنتهي بتأكيد تفوق رأي على آخر”
وبالرغم من بعض الدراسات التي ظهرت فيما بعد محاولة نقد النظرية وإسقاطها إلا أن الكثير من الأحداث والمواقف وكذا الدراسات أثبتت قوتها في تشكيل خريطة الرأي العام, وبالعودة إلى المقاربة مع النظرية فإن ما يعيدني إلى التفكير فيها هو السياق الذي تبلورت فيه (أزمة تسعيرة الوقود) وطبيعة خريطة الرأي العام التي تشكلت حول القضية والشد والجذب الحاصل بين المؤسسة البرلمانية والمؤسسة التنفيذية من جهة وعامة المجتمع من جهة أخرى. وبين هذا كله فإن ثمة نحلة صامتة باتت مفقودة في حلقات هذه القضية وهي ما يمكن أن نتلمسها بين أطراف النخب (المثقفين والأكاديميين) على وجه الخصوص. وإن كان هناك طرح ما في هذا القضية من بعضهم إلا أنه طرح خجول لا يرتقي إلى مستوى تأثير القضية وتداعياتها. بل أن اشتغال الكثير منهم أصبح على ردود الأفعال حول القضية أكثر من القضية نفسها.
إن محور الإشكال في القضية لا يتمحور في مسألة “بيسات” إضافية يدفعها المواطن من صلب معيشته متغاضياً عن سلسلة من الإجراءات والتدابير التي وعد سابقاً – ويا كثر الوعود – بأنها لم تمس معيشته. ثم يتفاجئ بأنها تضرب في صميم معيشته بل وتضعها على المحك وسط دوامة الإلتزامات وقوة التحديات. وإنما تكمن المشكلة في زيادة وتراكم (الاحتقان المجتمعي) إزاء هذه التدابير, وتشكل طبقات من ردود الفعل الاجتماعي قد تأخذ بالرأي العام في اتجاه غير محسوب العواقب. ثم أن التأثير الأكبر من ذلك هو تهديد معيشة الطبقة الوسطى في المجتمع وهي الطبقة الأكثر حساسية في تكوين البناء الاجتماعي حيث بات وضع هذه الطبقة على المحك خصوصاً في ظل التوسع الديموغرافي لها وكونها تشكل الطبقة الأكثر عرضية في المجتمع, تلك الطبقة التي وسع نطاقها تطور التعليم وإرتقاء مستوى المعيشة في مرحلة ما, تجد نفسها اليوم أمام جملة من التدابير المهددة بتقهقر أوضاعها وهذا ما يتنافى مع وعيها وإداركها المجتمعي ويدخل في خانة (اللامقبول) بالنسبة لأفرادها. وعلى مستوى الفئات الأقل دخلاً يطرح التساؤل عن وضع شبكات الأمان الاجتماعي في السلطنة في مختلف أشكالها بما من أمثلتها (أنظمة الضمان الاجتماعي والتأمينات الاجتماعية) في ظل وضع اقتصادي غامض يكتنف برامجها ويعوق محدودية مواردها وهي المتصلة بشكل مباشر بعيش الفئات الأقل دخلاً في المجتمع والتي تشكل قاعدة عريضة يجب التنبه إليها واستقصاء أوضاعها كذلك.
وفي وسط هذا كله لا نجد سوى صوت المواطن. عبر كافة المنابر نجده صارخاً ومنادياً وضاجراً من كل هذا عبر مواقع التواصل الاجتماعي, وعبر ناقل الشورى, وعبر الإذاعات وبرامجها. لا يسند هذا الصوت أي صوت نخبوي.. وكأن أطروحات المثقفين وأفكارهم المستوردة استهلكت تحت وطأة الاستعراض, وعلى الجانب الآخر يدخل الأكاديميون أيضاً خلية (النحلة الصامتة) في الوقت الذي يحتاج فيه المجتمع والدولة إلى أطروحات أكثر جرأة فيما يتعلق بالبدائل الاقتصادية للأزمة أو في مسارات إداراتها والوصول بها إلى بر الأمان. أو في تنبيه صانع القرار إلى وضع الطبقات الاجتماعية وحساسيتها. ونوعية الخدمات والتدابير التي لا يتوجب المساس بها كونها تمثل منطقة حساسة في تكوين النسيج الاجتماعي. بل أن غالبية الأطروحات التي تأتي من (نحلة الصمت) تكون ردة فعل على الفعل المجتمعي تجاه الأزمة, فنرى نقداً لاذعاً لممثلي الشورى وأطروحاتهم, أو للبرامج الإعلامية والأطروحات التي تناقش المسألة. في الوقت الذي أرى فيه – من وجهة نظر شخصية – أن القضية تشكل هاجساً للبرلمان وقد تحرك عبر أدواته والمنافذ المتاحة له في ضوء الصلاحيات المتاحة وقدم ما يستطيع من رؤى وأفكار إزاء الأزمة. مع اختلافنا أو اتفاقنا على نوعية الطرح إلا أن واجب النخب المثقفة اليوم سواء كان المثقفين أو الأكاديميين تنوير هذا البرلمان وأعضاؤه بالطرح الواعي والأسس العلمية التي يمكن من خلالها تجاوز هذا الإشكال عبر خلق حوار وطني فاعل ومنطقي لا تعتليه وتسوده لغة النقد والتشكيك والتقزيم فحسب. وإنما ينطلق من رؤية تكاملية تجسد مسؤولية كل الفئات إزاء القضية باعتبارها قضية وطنية نعايشها ونغوص في واقعها شئنا أم أبينا..
وختاماً فإنني أعتقد أنه آن الآوان لنحلة الصمت أن تترك زاوية الخلية, وتبادر وتطرح ما لديها وفق حدود المنطق وأبجديات الطرح الواعي, وتمارس دورها التنويري إن كان تعتقد حقاً في مآلات هذا الدور أنه يخدم بشكل أو بآخر حلول عملية لهذه القضية. فالقضية قضية وطن والمسؤولية تشاركية وكما أن مآثر وآثار هذه الأزمة تعم على الجميع فإن الجميع مسؤول مسؤولية مباشرة في هذا الحوار الوطني. ولماذا لا يكون هناك نقاش وطني جريء يجمع أعضاء البرلمان مع السلطة التنفيذية مع هذه الفئة ويتم فيه الطرح ويؤخذ بما يتوافق مع الحلول العملية الممكنة لهذه القضية. حتى لا تكون المسألة وكأن كل من هذه الفئات يصرخ في أطراف صحراء قاحلة ويظن أن جميع من حوله يستمع إليه. فيما لا ينصت إليه سوى نفسه..!