كتبه/ مبارك بن خميس الحمداني
قبل أيام كنت أجلس مع أحد الأصدقاء الذين لم ألتق بهم منذ فترة ليست بالقصيرة.. وبعد تداول (الأخبار والعلوم) – أيقونة النقاش العماني- أجده يعرج مباشرة للقول : منذ زمن لم أسمع رأيك في القضايا الساخنة في العالم. تفاجأت وقلت في نفسي “ومنذ متى كنت فقيهاً في قضايا العالم والأمة !”.. ثم عرج لأسئلته التي انهالت علي كالطوفان : ما رأيك في أحكام الإعدام التي صدرت ضد مجموعة من الإرهابيين في الدولة الفلانية ؟ .. وهل تابعت البرنامج الفلاني الذي استضاف المحلل السياسي الفلاني للحديث عن الهجوم على السفارة الفلانية ؟ ما رأيك في تصريح الدولة الفلانية وبيان الوزير الفلاني وموقف الخارجية الفلانية.. كنت مع كل سؤال أندهش من قدرته الهائلة على الإلمام بكل هذه القضايا وكنت أندهش أكثر من إحساسه بأهمية الإلمام بها وإلتزامه التام بأن يكون له رأي ووجهة نظر خاصة في كل حدث..!
وأحسب أن أمثال صديقي هذا في عالمنا العربي اليوم كثر – وهي فئة لا أحبذ كثيراً الاختلاط بها ومجالستها -. فتساءلت: هل من واجبي اليوم كفرد أن أكون ملماً بكل الأحداث السياسية منها والاقتصادية وكل المناوشات التي تحدث بين التكتل الفلاني والإتحاد الفلاني وعن المآسي الإنسانية الواقعة في أقليم كذا أو عن الزلزال الذي ضرب جزيرة كذا.. ولو افترضنا أهمية ذلك إلى أي مدى سيستوعب الفرد منا كل هذه القضايا والإرهاصات التي تتجدد تفاصيلها وتتبلور حكاياتها بتعقد تام مع كل ثانية يعيشها هذا العالم ؟!
إن جزء كبير من موجة الإحباط والرؤية التشاؤمية للعالم والوجود والمستقبل التي تسيطر اليوم على الشباب العربي إنما تنبع من إحساسهم المغلوط – في تقديري – بأن عليهم أن يكونوا عارفين ومحللين ومدققين في كل القضايا التي تحدث في السياق المحلي والإقليمي والعالمي. وأن تكون لهم وجهة نظر فيها. هذا طبعاً إلى عوامل أخرى كثيرة تشكل هذه النظر التشاؤمية لثلاثية (العالم / الوجود / والمستقبل) ومنها الواقع المعاش وحالة الإستبداد السياسي والتأخر المعرفي وتأخر الفعل الثقافي.
أتعجب دائما في نفسي حين أشاهد بعض صفحات شبابنا العربي عبر مواقع التواصل الاجتماعي وكأنها قناة تلفزيونية إخبارية يستلزم منها أن تواكب جميع الأحداث وأن يبدي محلليها رأياً في كل التفاعلات الحادثة على كافة المستويات. فمواقع التواصل الاجتماعي اليوم وغيرها من الشبكات لم تعد تسرقنا فقط من واقعنا الحقيقي المعاش ولا من أوقاتنا بل باتت تسرقنا أيضا من (حكمتنا / قدرتنا على الإنتاج / قدرتنا على الفهم الحقيقي). فأنا لا أتخيل أن شخصاً يقضي يومه بين الجزيرة والعربية وبي بي سي ومواقع الصحف العالمية يقرأ هنا ويتابع رأي المحلل هناك باستطاعته أن يبلور أفكاراً إبداعية في حقل اهتمامه أو في مجال اختصاصه أو حتى أن يقدم رأياً حكيماً في القضية التي يتابعها أو الموضوع الذي يشغله.
وهذا جزء أساسي لا يتجزأ اليوم من واقعنا العربي المعاش الذي يتردى يوماً بعد يوم وتشتعل فيه الصراعات على كافة الأوجة سياسية ودينية طائفية ومذهبية عنصرية وقبلية. وواحد من الأسباب الرئيسية في ذلك بحسب تقديري هو أننا نفتقد (لحكماء) حقيقيون قادرون على الفهم الدقيق لمجريات الأحداث الواقعة وإبداء آراء سديدة فيما يجري إضافة إلى التنبؤ بما قد يكون عليه حال هذه القطعة المشتعلة من العالم في قادم الأيام والأعوام..
ولن أقول أن سبب أساسي من أسباب المشكلة هي في عدم وجود مثقفين حقيقيين. لأننا في تقديري تجاوزنا (زمن المثقف) ونعيش اليوم (عصر ما بعد المثقف) وهو عصر يصبح فيه الفرد بوصفه فاعلاً اجتماعياً ومعرفياً وثقافياً أكثر تحرراً من وصاية المثقفين ومن تبعيتهم. لأن مقدراته أصبحت تتساوى في اكتساب المعرفة وانتجاها وبلورتها مع مقدرات المثقفين ووسائطهم ومصادرهم..
في الفترة بين عام 1623 و 1662 ذكر الفيزيائي والرياضي والفيلسوف الفرنسي بليز باسكال عبارة شهيرة أرخت له حين يقول :”تنشأ كل مشاكل الإنسان من عدم قدرته على الجلوس وحده في غرفة هادئة لفترة كافية من الزمن”.
وأقول اليوم أن نصف مشاكلنا سببها أننا غير قادرين على الإنفصال عن أحداث هذا العالم التي تعنينا والتي لا تعنينا لمدة يوم واحد على الأقل !
قرأت قبل أيام مقالة للزميل ياسر حارب يتحدث فيها عن طريقة تعلم الفيزيائي الأمريكي (ريتشارد فاينمان) حيث يقول أنه كان يدون بعض الأشياء التي كان بحاجة إلى يتعمق في معرفتها ثم يختفي عن كل الأحداث الاجتماعية وحضور المناسبات والظهور لفترة من الزمن إلى أن يحسن الفهم والتعلم ثم يعود لحياته الطبيعية. ولقد كان لطريقة تعلمه هذه الفضل في أن يكون أحد أعظم العلماء المؤثرين في تاريخ البشرية وفي مسار العلوم جميعاً.
لا نطلب اليوم من الجميع أن يكون باسكال آخر أو فاينمان آخر ولكن نطلب منهم أن يكونوا (هم ذواتهم) الحقيقية وأن لا يحملوا عقولهم طاقة فوق المستطاع.. وأن لا يرهقوا أنفسهم بحمل قضايا الأمة ظناً منهم أن هذا الحمل لزام وواجب عروبي وقومي وأنسني. بل أن يفكروا في الطريقة التي يخدمون بها مجتمعهم عبر فهم قضاياه الحقيقة واكتشاف الجوانب التي تنقص تطوره وأن يساهموا في حركة هذا التطور عبر التعلم الحقيقي والمعرفة الدقيقة والمتخصصة. وأن تكون لهم قضاياهم الخاصة التي تشغلهم لا أن يعبوا عقولهم بقضايا الساسة وشؤون أهل الدين ونزاعاتهم وصراعاتهم..
إن الحكمة تولد الإبداع. وما أحوجنا اليوم لصناعة الحكمة وذلك لن يتأتى إلا إذا تساءلنا أمام كل قضية نقف عليها ونظن أنها تهمنا لنقول (ماذا بعد ؟)
يقول الكاتب محمد جواد سنبه : “إن المبدع عندما يميل إلى العزلة فإنه لا يمارس سلوكاً سلبياً بل أنه يختلي مع أفكاره ليجد الحلول لقضية مهمة تشغل تفكيره فعزلته هنا ليست سلبية وإنما إيجابية لأنها عزلة منتجة وليست عزلة مرضية”
وختام ذلك أقول لصديقي : كم أنت بحاجة إلى عزلة منتجة تختلي فيها مع أفكارك التي تعنيك لتجد ذاتك الحقيقية. لا ذاتك التي (تحشر) نفسها فيما يعنيها وما تظن جاهلة أنه يعنيها..!
