جماهير صحار

حيث للجمهور معنى

ادبيات

جنة السينما

Bader

بدر الجهوري

لطالما أبهرتنا السينما الإيطالية – وما زالت – بتحف فنية خالدة تعكس شغف وذوق هذا الشعب الشاعري بامتياز. أفلام خطت بماء الذهب كروائع كلينت إيستوود في بداياته مثل The Good, the Bad, and the Ugly عام 1968 وقبله A Fistfull of Dollars عام 1966، والتحفة الفنية Life Is Beautiful الذي ألفه وأخرجه ولعب دور البطولة فيه روبرتو بينيني عام 1997 والذي حصد ثلاثة جوائز أوسكار في ذلك العام.

أعود اليوم للسينما الإيطالية مع فيلم Cinema Paradiso “جنة السينما” الذي ألّفه وأخرجه جيوسيبي تورناتوري، ورغم أني لم أشاهد من قبل أي فيلم لهذا المخرج إلا أن هذا الفيلم يدعو لمشاهدة كل أعماله لما فيه من لمسات إخراجية في غاية الإبداع، فقد حصد الفيلم أوسكار أفضل فيلم أجنبي عام 1990 بالإضافة ل12 جائزة عالمية.

قد تبدو قصة الفيلم بسيطة جداً في مجملها، عن الطفل (توتو) الذي نشأ عاشقاً للسينما، يصادق العجوز (ألفريدو) الذي قضى حياته في غرفة العرض لتلك السينما القديمة التي تديرها الكنيسة الكاثوليكية بجزيرة صقليّة الإيطالية. ولكن تعصف الأقدار بتوتو بعد بلوغه سن الشباب فيقرر أن يهجر صقلية من غير رجعة، ولا يعود إلا بعد 30 عاماً عندما يصله خبر وفاة صديقه العجوز ألفريدو. والفيلم في مجمله flashback يستعيد فيه توتو ذكرياته مع ألفريدو والسينما.
with-the-film

ولأن الكنيسة هي من تدير السينما فإن أي مشاهد عريٍ أو قبَلٍ يتم حذفها قبل العرض، وسط استياء وامتعاض المشاهدين، بيد أن تغير موازين القوى وصعود الرأسمالية يضرب بكل المثل العليا عرض الحائط (وفي هذا السياق نبذٌ واضحٌ للشيوعية التي بدأت تتسلل رويداً لإيطاليا).

رغم بساطة القصة إلا أن المخرج يضع لمساتٍ بديعة تجعل من كل ممثل في الفيلم – ولو كان ذو دورٍ بسيط – شخصية مهمة يستوجب الالتفات لها والتفكر في تطور شخوصها. (ملاحظة: قد تحرق بعض التفاصيل لذا وجب التنبيه).

dialogue2

من أمثلة اللمسات الإخراجية البديعة لتورناتوري:

المجنون المشرد الذي ينادي بأن الساحة (أكبر ميدان في صقلية) ملك له، ولا يسمح لأي تصرف في هذه الساحة إلا بإذنه (بما فيه عرض الأفلام في الهواء الطلق). دائماً يسير وفق مقولة “خالف تعرف” فيبدي امتعاضه الدائم من السينما، ثم يأتي في جنازة ألفريدو ليضحك وهو يحمل أمتعته مخترقاً حشد السيارات التي ملأت “ساحته”.

العاشقان اللذان يحضران – بشكلٍ منفصل – فيلم رعب وينتظران أكثر المشاهد رعباً لكي يغمض الجميع أعينهم بينما يستغلان هما الفرصة لتبادل نظرة حبٍ دونما تطفل أحد. يعودان لاحقاً ليتابعا فيلماً رومانسياً معاً، ثم يعودان لاحقاً مع طلفهما (بعد أن تزوجا)، ثم يسيران بعد 30 عاماً وسط الرهط القليل في جنازة ألفريدو.

الفائز باليانصيب العاشق للسينما، الذي يستثمر كل أمواله في دار السينما قبل أن يموت بسكتة قلبية على كرسي السينما وهو يتابع فيلماً حركياً.

صديق توتو في المدرسة، الغبي الذي دائماً ما يوبخ وتعلو وجهه علامات الضرب. يكبر صديقاً لتوتو، وتبقى تلك الندوب على وجهه.

لحظة العناق بين توت وأمه رغم غيابه 30 سنة. يتعمد المخرج عدم المبالغة في المشهد فلا يظهر منهما سوى لحظة ما بعد العناق لمدة لا تزيد عن 5 ثوانٍ، قبل الانتقال لمشهدٍ آخر يسيران فيه وهم يتجاذبان أطراف الحديث وكأن الغياب لم يحدث. لكأن المخرج يريد أن يقول لنا أن كلا الطرفين متفقان على هذا الغياب وأن اللقاء هو حدثٌ عابرٌ لا أكثر.

تمثال رأس الأسد الذي يخرج من فمه ضوء جهاز العرض (projector) والذي يتخيله توتو وهو يزأر بأعلى صوته. ثم يحدث الحريق فتخرج من فم الأسد ألسنة النار بدلاً من ضوء الأفلام.

وأخيراً الجُمَل التي ينطق بها ألفريدو، ذلك العجوز الأمّي الذي يصف نفسه بالمعتوه إلا أنه ينطق درراً حفظها كلها من الأفلام التي شاهدها آلاف المرات.

dialogue

open-air

“سينما باراديسو” فيلم خارج فئة التصنيف، فهو كوميدي شاعري رومانسي تراجيدي. فيلم من القلب للقلب يدفعنا للتعلق بالذكريات مهما كانت مؤلمة. فيلمٌ يأتي بنهاية تربط البداية بكل شيء في الفيلم، يجعلنا ندرك أن التفاصيل البسيطة للبدايات هي الأكثر خلوداً.