جماهير صحار

حيث للجمهور معنى

ادبيات

‏القراءة بوصفها فعل مجتمعي وطني

‏القراءة بوصفها فعل مجتمعي وطني
مبارك بن خميس الحمداني
reading
لم يعد الحديث اليوم عن القراءة شأن فردي تتجاذبه المقولات النظرية والشعارات البراقة التي تردد على مسامع الناس من قبل معاشر المثقفين ومدمني القراءة. بل أصبح اليوم وعبر أقطاب العالم المختلفة يشكل (قضية وجود) متأصل بالنسبة للمجتمعات. ولم تعد القراءة اليوم بذات مفهومها الضيق المقتصر على امتلاك مكتبة متنوعة من المراجع تحتوي أصناف الأدب والمعارف المختلفة. بل باتت اليوم مفهوم متسع يوازي الإطلاع والقدرة على مواكبة العصر وامتلاك روحه والقدرة على استيعاب المتغيرات العلمية والفكرية والثقافية التي يمر بها العالم من حولنا.
من هنا لم تعد القراءة محدودة بقراءة الكتب. إنها بشكل أدق (قراءة العالم لفهمه ومعرفة موقعنا فيه ومعرفة المسارات التي يجب علينا أن نتحرك فيها في هذا العالم اللامتناهي من المتغيرات المتعددة)
ومن هنا وفي ظل هذا المفهوم المتسع أصبح اليوم لزاماً على الدول أن تتخذ خطوات أجرأ وأكثر جدية فيما يتعلق بمسألة التواكب مع هذا الاتساع لمفهوم القراءة. وهذا الإلزام متعلق بوجود المجتمعات أصلاً بحكم كونه قضية وجود . فالمجتمع الذي لا يخطو خطوات فاعلة في هذا الاتجاه يغدو من المجتمعات المهزوزة التي تتجاذبها بكل سهولة ويسر رياح تغيير الأفكار وتضعف مبادئها تيارات التحول الثقافي والتبدل المعرفي.
والحديث عن إدراك الدول لأهمية القراءة وفاعليتها يتوجب عليها وضع رؤى متكاملة تساعد على عملية التحول القرائي بوصفه (تحول معرفي وثقافي وفكري وعلمي) بالنسبة للمجتمع. فمواكبة مسارات العلوم. واستيعاب جديد التغيرات التقانية. وهضم التعاظم الثقافي والمعرفي لا يمكن أن يتأتى اليوم إلا من خلال (القراءة) بمفهومها الجديد والمتسع والذي يعني في أبعاده (البحث والإطلاع والتنقيب والفهم والدراسة) فكل هذه العمليات يجب أن تكون عمليات تأسيسية تتوزع على المجتمع بفئاته ومختلف توجهات أفراده ونطاقات نشاطهم المجتمعي.

مما يدفع الدول إلى ضرورة وضع خطط استراتيجية لتعميم ثقافة القراءة تستهدف (التنشئة على القراءة , وترسيخ ثقافة القراءة , وتحديث المجتمع القارئ) وهذه الخطط ينبغي أن تأخذ أبعاداً أكثر عمقاً وجدية مما هي عليه ومن أن تكون مجرد “بهرجات قرائية” وفعاليات للتهريج الثقافي أو أنشطة وقتية وآنية. بمعنى أن ترتبط بالمؤسسات الأساسية والمحورية في الدولة والمجتمع والتي تتصل بشكل مباشر وأساسي بمختلف الفئات العمرية المستهدفة. وتتلاقى مع أهداف الخطط والبرامج.
ومن هنا فإن هذه الخطط أيضاً ينبغي أن تبتعد عن الجوانب الوعظية والإرشادية إلى جوانب أكثر قابلية للتطبيق في مجالات عدة (على مستوى الأسرة , ومؤسسات التعليم بمختلف مراحله , مؤسسات اجتماع الأقران , المؤسسات الثقافية , مؤسسات العمل المختلفة)
فعلى المستوى القومي العام من الضرورة بمكان أن يرافق هذه الخطوة توفير البنية الأساسية لعملية التحول القرائي وهذه البنية لا تعتمد على وجود المكتبات بصفتها الحالية فقط. بل أن تتحول المكتبات إلى مراكز معرفية يتم فيها تداول الكتب والأبحاث وتوفر أنظمة بحثية متطورة وتحتوي على متاحف للعرض العلمي ومنصات معرفية وعلمية مختلفة. وأن تتسق هذه المكتبات مع الأسلوب القريب من حياة الأفراد وتوفر لهم البيئة الموائمة التي تجعل فعل القراءة والإطلاع ينساب كسلوك ذاتي ومجتمعي سلس يغير ثقافة المجتمع تجاه القراءة من النظرة الواصمة والمتوجسة إلى نظرة التقدير والتماهي.
ومن الآليات الفاعلة كذلك التشجيع على دور المكتبات المنزلية وتزويدها خدمياً بمتطلباتها للأسر التي تقوم بتوفيرها وأن تكون خدمة موصولة حالها كحال الخدمات الحيوية الكهرباء والمياه والإعاشة وغيرها. وأن يعزز هذا الدور باالاحتفاء بالأسر التي تضع اهتماما ماثلا لمكتباتها المنزلية وتؤسس لها قوامات النجاح ولأبنائها قوامات القراءة الفاعلة.
وفعل القراءة عموماً لا يمكن أن ينجح في عملية التحول في أي دولة دونما وجود فعل انتاج. والانتاج هنا بمفهومه الواسع كتابيا سواء عبر الأدب أو الثقافة أو فروع العلم المختلفة. مما ينبغي أن يتوازى مع تفعيل عملية القراءة توفير المقومات اللازمة للأقلام المنتجة في كل الحقول لتنتج معارف وأفكار وثقافات تساهم في أن يكون للمجتمع صوته فيما يقرأه.
ومن التجارب الملفته التي طالعت عنها في هذا الصدد وتحديداً في ألمانيا والتي أطلقت مبادرة “ألمانيا بلد القراءة” وكان من ضمن بنودها فعالية ضخمة تحت مسمى “مدينة واحدة , كتاب واحد” والتي خصصت أسبوعين كاملين في فرانكفورت يدور فيها النشاط طوال المدة حول كتاب واحد، “يرتبط بالمدينة بشكل خاص. . و هو الكتاب “فرانكفورت ممنوع” للكاتب دافيد ديتر زويتة” كما كررت هذه التجربة في مدن ألمانية أخرى لكتب ألمانية أيضاً. حيث تقام أنشطة وفاعليات مختلفة تدور حول موضوع الكتاب وتقام جلسات نقاش موسعة وعروض مرئية وموسيقية حوله. إن مثل هذه الأفكار وإن كان وقتية مرتبطة بآن محدد إلا أنها تعزز ارتباط المجتمع بالكاتب المحلي وتدفع بالمجتمع عموماً إلى التنبه إلى أن فعل القراءة فعل مجتمعي رائد ينبغي أن يكون في مطلع اهتمام أفراد المجتمع ومحور تفاعلهم.
ومن المقومات الأساسية لنجاح خطط التحول القرائي في المجتمعات التنبه إلى دور الإعلام في تعزيز الممارسة القرائية. وفي تقديري فإن أولى الخطوات في سبيل هذا التعزيز هو أن يكون أهل الإعلام وخاصته قارئون بالضرورة متسعون في مداركهم عميقون في ثقافتهم وإطلاعهم. ليستطيعوا بناء وتقديم وإعداد برامج وأنشطة إعلامية تساهم في تحويل المجتمع إزاء هذا الاتجاه.
وفي المجمل العام نستطيع القول أن فعل القراءة اليوم لم يعد مجرد نداءات نخبوبة تطلق هنا وهناك. والمجتمعات التي لا زالت تتوجس ويتوجس أفرادها من هذا الفعل مجتمعات مهزوزة تعيش على وهم الكمال وتقتات على إدعاء المثالية. وستعريها يوماً موجات التحول الثقافي والتغير المعرفي والتطور التقاني التي باتت لغة سريعة لا يستطيع إجادتها إلا من يجيد أن يتعاطى مع مفهوم القراءة اليوم بشكله الأوسع والقابل للتعامل بفكر استراتيجي على مستوى الدول والمجتمعات وليس فقط على نداءات المثقفين والأفراد.