إنَّ الشِّعرَ لا يموت
يكتبها: الشاعر/ مهدي اللواتي
الشعرُ.. هذا الكائن الغريب.. يُعطي كلَّ من يُعطيهِ.. ومن يتفانَ فيه ويكنْ مُتأصِّلا في ذاتِه حدَّ النُخاع ويتركْ آثارَه فيهِ وفي غيره فإنّه سيبقى بعده وإنْ طال الزمن وتتابعت الأجيال…
وهنا محطةٌ أخرى للشعر بعد أن وقف مجلس شعراء صحار مع الشاعر العالم سماحة الشيخ/ سليمان الجابري -رحمه الله- يقفُ اليومَ مع شاعر آخر في احتفائيةٍ ثانية.. مع الشاعر الأستاذ / علي بن شنين الكحالي.. عَلمٌ آخر من أعلام صحار الشعرية.. والسلسلةُ مستمرة.. فصحار ولَّادةٌ للشعر والشعراء منذ زمن وستبقى…
من ذاكرة شعراء صحار.. سلسلةٌ من الأمسيات التي يتبناها حاضن الشعر والشعراء في صحار مجلس شعراء صحار.. فقد أخذ على عاتقه أن يحتفي بهم ويُدرجَ سنويا في روزنامته أمسياتٍ لها وقعها في إخراج مكنونات الشعر من بين رفوف الكتب؛ لتنير دربَّ الأجيال الحالية والقادمة.. يؤثث بهم مجلسَه العامر بكل هذه الأكاليل التي يسقيها من خلال شعرائه لتُزهرَ في كل القلوب .. يطيرُ كنحلةٍ بين هذه الأكاليل ليضع رحيقها في بيتٍ صنعه لصحار ويكوِّن خليةً تجتمعُ فيها القلوبُ لتصنع هذا النتاجَ العسل.
لا يُريدُ مجلس شعراء صحار أن يتعاملَ مع شعرائه كما قامت الصين قبل الميلاد بخمسمائة سنة مع فيلسوفها كونفوشيوس أو كما اشتغل الجميع بالمتنبي، وكلٌّ قال قولَهُ فيه لأنهما لم يحضيا بالاحتفائيات التي تليق بهم..
هنا يحاول المجلسُ أن يزرع في الغيمِ سحابًا آخرَ يتقاطرُ منه الشعراءُ لتحنو عليهم السماء وتذكرهم النجومُ في جوف الليلِ ويعودون إلى رغيفهم الأسمرِ أو إلى (خبز الرخال) معنا في وطنٍ كتبوهُ وعاشوا فيه ليعيشَ فيهم ونكون نحنُ فيهم كزجاجِ المساجدِ ومنائرها.. تشهدُ لكل دعوةِ شعر ارتفعت كنبوءةٍ ووحيٍ لا يغيب ولا ينتهي.. فمن كل شاعر يولدُ ألفُ ألف شاعر.. يعزفون بالشعر مقطوعاتٍ كبيتهوفن وموزارت ورحمانينوف أو حتى عمر خيرت.. خالدةً بخلود الموسيقى في الحياة..
.
شاعرُنا كتب الشعر واهتم بالطفولة.. كان حلمه ألفَ ألف شاعرٍ يحلِّقونَ في سماءِ الوطن.. فكان له ما أراد.. فشعره اليوم في مناهجِ أطفالِنا يحفظونه ويرددونَه ويتغنونَ به.. لم يحظَ بطفلٍ في حياته ولكن هاهم أبناؤه هنا من أنجبهم بشعره وكتاباته ومخطوطاته وفكره وجمالاته…
الطفولةُ كانت حاضرةً في شعره فكتب لها وكرَّسَ جهدَهُ لها.. نتذكره في زقاق المدارس بيده المليئةِ بالطباشير صباحا وذاتُ اليد ملطخةٌ بالحبرِ ليلا.. نمرُّ على مخطوطاته فنعيش اللحظةَ كما كانت قبل سنين.. نراه جالسًا وفي يده قلم فرنسي بحبرٍ جافٍّ أزرقَ يخطُّ حياةً أخرى له ولنا.. ويتركُ الأثر المتسمِّرَ في الأوراق فتشرئبُّ له الأعناق والعقولُ والأفكار… من أين وجد الوقتَ لكل هذا؟ ومن أين استلهمَ كل الدقائق ووظفَّها بذلك الحبر؟! ومن أين وكيف ومتى ولماذا كان كلّ هذا؟!
ما زالت الأسئلة عالقة في حلق الشعراء والأجوبةُ تتطايرُ من عقولهم كما يتطايرُ الريشُ من أجنحةِ العصافيرِ الذبيحة.. فقد احتار فيه من قبله وأتعب من بعده.. فأصبحَ شعره كمسافةِ جرحٍ في كل حرفٍ يُكتبُ بعد أن اختار الخلودَ والموتَ الذي يناسبُه…
المرايا التي أوجدها في القلوب تخفف وطأةَ هذا الجرح، والروايات التي تَلَتْهُ تجعلُ الشعرَ كطفلٍ سحبوا عنه لعبتَهُ فسكنَ في زاويةٍ قصية، جالسًا القرفصاء خجلًا مما يراه بعده.. فقد كان يحنو عليه ويهدهده.. . فأضحى يتيمًا بعد موته…
الموتُ الذي كان ينتظرُهُ… كان ينتظرُهْ.. فقد كان مُنتظِرًا ومُنتظَرًا.. مرَّ على البيوتات وقبَّل رأس الأم وتنبأ بموتِهِ.. خطب الجمعةَ في آخر يومٍ له عن الموت في جامع القريةِ.. وانتظَرَهُ بكل تسليمٍ..
من يعلم عن وصيته؟!.. أوصى بكل كتبه للجامع الذي صلّى فيه.. ونقش لما بعد مماته مكتبةً في الجامعِ تحملُ اسمَه.. وتشهدُ لهُ وتشهدُ على الشعرِ والشعراء..
روحُهُ كانت هناك.. تُضيء ثغرَ الحياةِ بابتسامةٍ صادقةٍ، ودمعةٍ في عيونِ الشعر.. فكانت رحلة البرزخِ والغيبِ لتبدأ حياة الشعرِ فيه من جديد.. يستنسخها في كل حرفٍ يكتبه شاعرٌ صُحاريٌّ…
ومات الشاعرُ الأستاذ/ علي بن شنين الكحالي ولكنه بقى..
فـإنَّ الشِعرَ لا يموت…
الشاعر/ مهدي اللواتي
٢٠١٩م